اتَّهَمَ شَحْرُورُ ــ الجَريءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ــ رَبَّهُ بِالجَهْلِ بِمَا سَيَصْدُرُ مِنَ العِبَادِ مِنْ أَعْمَالٍ، وَقَالَ بأَنَّ اللهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيءٍ سَيَكُونُ، وَلَكِن بلاَ تَحْدِيدٍ، أىّ عَلَى سَبِيلِ الإحَاطَةِ بالاحْتِمَالاَتِ، وَنَحْنُ هُنَا نُبَيِّنُ لَهُ جَهْلَهُ وَعَدَمِ مَعْرِفَتَهُ بِاللهِ وَلاَ بِكِتَابِهِ القُرْءَان، عَلَّهُ يَرْتَدِع وَيَنْتَهِى، وَيَتُوبَ إِلَى اللهِ.
المِحْوَرُ الأَوَّل: اللهُ تَعَالَى فَوْقَ الزَّمَنِ.
1/1/1 ـ إِنَّ اللهَ هُوَ خالقُ الزَّمَن، فَكَيْفَ يَخْضَعُ لِشَيءٍ خَلَقَهُ؟
مِنَ المَسَلَّمَاتِ البَدِيهِيَّةِ، المَعْلُومَةِ لِجُلِّ النَّاسِ، أنَّ كُلَّ مَا عَدَا اللهِ تَعَالَي فَهُوَ مَخْلُوقٌ؛ وَعَلَيّهِ فَإنَّ بُعْدَ الزَّمَنِ مَخْلُوقٌ كَبُعْدِ المَكَانِ. وَلِلْتَقْرِيبِ؛ فَلَوْ دَارَت عَقَاربُ الزَّمَنِ إلَى الخَلْفِ، وَوَصَلْنَا إلي بدَايَةِ الكَوْنِ فَسَنَصِلُ إلي النُقْطَةِ “صِفر”، الَّتِى بَدَأ عِنْدَهَا خَلْقُ الكَوْنِ، وعِنْدَهَا سَيَتَلاَشَي زَمَنُ الكَوْنِ تَمَامًا مَعَ غِيَابِ الكَوْنِ نَفْسِهِ، كَمَا سَتَتَلاَشَي المَوْجُودَاتُ كُلُّهَا كَالأَرْضِ، وَالمَجَرّةِ، وَالسَمَاءِ، ..الخ، وَبَالتَالِي فَنَسْتطيعُ القَوْلَ بِأنَّ للزَّمَنِ عُمْرٌ (كَمَا هُوَ الحَالُ مَعَ المَكَانِ)، وَلَوْ قَدَّرْنَا أنَّ عُمْرَ الكَوْنِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ هُوَ 15 مِليَار سَنَة (مَثَلاً)، فإنَّ ذَلِكَ يَعْنِي ـ أَيْضًا ـ أَنَّهُ هُوَ عُمر الزَّمَن. وَالسُؤَالُ الَّذِى يَفْرِضُ نَفْسَهُ هُنَا فِى مُوَاجَهَةِ المَقُولَةِ الفَاسِدَةِ بإعَاقَةِ الزَّمَن لِعِلْمِ اللهِ هُوَ:
إذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الزَّمَنِ، فَكَيْفَ يَخْضَعُ لِشَيءٍ خَلَقَهُ؟ لاَ سِيَّمَا أنّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الأوَّلُ وَالسَابقُ عَلَى كُلِّ الخَلْقِ: “هُوَ ٱلْأَوَّلُ..﴿٣﴾” الحديد!
ألَيْسَ مِنَ البَدِيِهِيِّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بالزَّمَنِ المَخْلُوق. وَيَكُونُ القَوْلُ بأنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِن أَفْعَال العِبَادِ لِعَائِقِ الزَّمَن، هُوَ بالضَبطِ كَالقَول بأنَّهُ تَعَالَى خَاضِعٌ لمَخْلُوق مِن مَخْلُوقَاتِهِ؟!!!
1/2/2 ـ إِنَّ اللهَ حَتْمًا خَارجَ هَذَا الكَوْنِ:
فَالخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُرَاقَبَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ وَسَيْطَرَةٍ عَلَى كَوْنِهِ الَّذِى نُوجَدُ فِيهِ (فَضْلاً عَن مُلْكِهِ عُمُومًا)، وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ (تَصَوُّرًا) كَوْنُهُ خَارجَ هَذا الكَوْن، وَلَوْ كَانَ المُفْتَئِتُ يَرْجِعُ إلَى كِتَابِ اللهِ، وَيُرَتِّلُ ءَايَاتِهِ لَوَجَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
“۞ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًۭا ﴿٤١﴾” فاطر.
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أنَّ طَبِيعَةَ خَلْقِهِ لِهَذَا الكَوْنِ (المُؤَقَّتِ) قَائِمَةٌ عَلَى التَفَلُّتِ والزَوَالِ، وَيُقَابِلُ ذَلِكَ إمْسَاكٌ مِنْهُ لِهَذَا الكَوْنِ (المُتَفَلِّتِ الزَّائِلِ) حَتَّى يَبْقَى إلَى حِينٍ وَوَقْتٍ قَدَّرَهُ لَهُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَا صَدَّقَهُ العِلْمُ وَأَقَرَّ بِهِ (5).
فَإِمْسَاكُهُ سُبْحَانَهُ لِلسَمَاوَاتِ وَالأَرْض يُؤَكِّدُ تَبَايُنِهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَأنَّهُ لاَ يَخْضَعُ لاَ لِلزَّمَانِ، وَلاَ لِلمَكَانِ. وَإمْكَانِيَّةُ زَوَالِ هَذَا الكَوْنِ، أدْعَى لِفَهْمِ أنَّ اللهَ تَعَالَى خَارجَ هَذَا الكَوْنِ، المُحْدَثِ، بَقَوَانِينِهِ الَّتِى وَضَعَهَا سُبْحَانَهُ، وَالحَاكِمَة لَهُ، لاَ لِخَالِقِهِ.
1/3/3 ـ نِسْبِيَّةُ الزَّمَن لِلمَخْلُوقَاتِ لاَ الخَالِقِ:
التَعْريفُ البَسِيطُ لِلزَّمَنِ هُوَ أنَّهُ مَسْرَحُ الأحْدَاثِ كُلِّهَا، وَفِيهِ يَسْبَحُ المَكَانُ، وَالحَرَكَةُ، وَالتَفَاعُلاَتُ، وَالوَعْىُّ، وَالإدْرَاكُ . . الخ. وَالزَّمَنُ هُو بُعْدٌ مَعْنَوىٌّ فِيزْيَائِىٌ مَخْلُوقٌ كَبُعْدِ المَكَانِ، وَلاَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَفِيِهِ تُوجَدُ وَتَتَحَرَّكُ الأشْيَاءُ، وَبِدُونِهِ لَنْ يُوجَدَ شَيءٌ وَلاَ حَرَكَةٌ. وَلأَنَّهُ (بِعَكْسِ بُعْدِ المَكَانِ) ذُو اتِجَاهٍ وَاحِدٍ فَهُوَ المَسْؤُولُ عَن تَرْتِيبِ الأَحْدَاثِ (6).
هَذَا الزَّمَنُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا، بِحَيْثُ يُظَنُّ أنَّهُ مُطْلَقٌ، وَثَابِتٌ فِى أرْجَاءِ الكَوْنِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّدُ الزَّمَنُ بِحَسَبِ نِسْبِيَتِهِ (7)، فَمَا هُوَ حَاضِرٌ بِالنِسْبَةِ لَنَا، هُوَ مَاضٍ بِالنِسْبَةِ لِغَيْرِنَا، وَمَا هُوَ حَاضِرٌ لَنَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ لِغَيْرِنَا، وَمَاهُوَ يَومٌ عِنْدَ غَيْرِنَا هُوَ زَمَنٌ طَويلٌ بِالنِسْبَةِ لَنَا، وَمَاهُوَ يَومٌ عِنْدَنَا، هُوَ زَمَنٌ طَويلٌ بِالنِسْبَةِ لِغَيْرِنَا، وَلَوْ تَضَاعَفَت سُرْعَةُ دَوَرَان الأَرَض حَوْلَ نَفْسِهَا لَصَارَ اليَومُ 12 سَاعَةً، وَصَارَت السَنَةُ أكْثَرَ مِن 730 يَومًا، كَمَا أنَّ السَنَةَ فِى كَوْكَبِ عَطَارِد تُسَاوى اليَومَ فِيِهِ؛ حَيْثُ يَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهِ بزَمَنِ دَوَرَانِهِ حَوْلَ الشَمْسِ، وَيَبْلُغَا 88 يَوْمًا مِن أيَّامِنَا، بَيْنَمَا تَبْلُغُ السَنَةَ فِى الكَوْكَبِ بُلُوتُو 238 سَنَةً مِن سَنَوَاتِنَا، وَلَوْ سَافَرَ أحَدٌ بِسُرْعَةِ الضَوْءِ، لَتَوَقَّفَ الزَّمَنُ عِنْدَهُ، وَلَوْ زَادَ عَن ذَلِكَ، لاسْتَشْرَفَ المُسْتَقْبَلَ أو المَاضِى. كَمَا أنَّهُ هُنَاكَ مَجَرَّاتٌ تَسِيرُ أسْرَعَ مِن سُرْعَةِ مَجَرَّتِنَا، بِفَرْقٍ شَاسِعٍ، حَتَّى صَارَت الهُوَّةُ سَحِيقَةً، وَصَارَت هَذِهِ المَجَرَّاتُ فِى المُسْتَقْبَلِ، وَصِرْنَا بِالنِسْبَةِ لَهَا فِى المَاضِى، وَفِى حُكْمِ الأَمْوَاتِ . . وَهَكَذَا.
فَالزَّمَنُ إذًا هُوَ أمْرٌ نِسْبِىٌّ مُتَغَيِّرٌ بِالنِسْبَةِ لِلمَخْلُوقاتِ، بَعْضُهَا البَعْضُ، وَبِالنِسْبَةِ إلَى أرْجَاءِ الكَوْنِ؛ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَى ثَبَاتِهِ الظَاهِر (وَالخَادِعِ لِلبُسَطَاءِ) فِى مُحِيطِنَا، لِيُعَمَّمَ عَلَى الكَوْنِ بِرِمَّتِهِ، فَيَصِيرُ مُطْلَقًا فِى الكَوْنِ، فَضْلاً عَن مَدِّهِ لِلخَالقِ عَزَّ وَجَلَّ، بِحَيثُ يَصِيرُ حَائِلاً جَامِدًا؟
. . سُبْحَانَك!!!
1/4/4 ـ لُزُومُ الزَّمَن لِلمَخْلُوقَاتِ لاَ لِلخَالِقِ:
أىُّ حَرَكَةٍ يَلْزَمُهَا زَمَن، وَبِالتَالِى فَنَسْتَطِيعُ القَوْلَ بِأَنَّ انْتِقَالَ أىّ شَيءٍ مَادِىٍّ أوْ مَعْنَوىٍّ يَسْتَلْزِمُ زَمَنًا لِلنَقلِ، وَلَوْ قُلْنَا (مَثَلاً) بِأَنَّ ضَوْءَ نَجْمٍ مَا سَيَنْتَقِلُ عَبرَ الفَضَاءِ، فَسَيَنْتَقِلُ أيضًا عَبْرَ الزَّمَن، وَلَوْ قُلنَا إِنَّ هَذَا الضَوءُ سَيَصِلُنَا خِلاَلَ عَشْر سَنَوَاتٍ ضَوْئِيَّةٍ، فَمِنَ المُمْكِنِ جِدًا أنْ يَكُونَ النَجْمُ قَدْ انْفَجَرَ، بَيْنَمَا ضَوءُهُ لاَ يزَالُ أمَامَهُ مَلاَيِين السَنَوَاتِ الَّتِى سَيَظَلُُ فِيهَا يَقْطَعُ الطَريقَ إلَيْنَا حَتَّى يَنْتَهِى، وَسَنَرَاهُ نَحْنُ عَلَى أنَّهُ مَوجُودٌ حَتَّىَ تَصِلُ صُورَةُ انفِجَارهِ، وَيَخْبُوَا ضَوْءُهُ. وَعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ أنْ نَقُولَ إِنَّ الزَّمَنَ هُوَ بُعْدٌ لاَزِمٌ لِهَذَا الكَوْنِ المَخْلُوقِ، بِحَيثُ لاَ يُمْكِنُ تَصَوُّر أىَّ شَيءٍ فِى هَذَا الكَونِ بِدُوُنِهِ، وَبِدُونِهِ فَسَيَتَوَقَّفُ كُلَّ شَيءٍ.
هَذَا الَّذِى قُلْنَاهُ مِن لُزُومِ الزَّمَنِ لِلحَرَكَةِ هُوَ بِالنِسْبَةِ إلَى المَخْلُوقِ، أمَّا بِالنِسْبَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى فَنَجِدُ أنَّ بُعْدَ الزَّمَنِ مُنْعَدِمٌ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى:
“.. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ ﴿٤﴾” الحديد.
وَلَوْ سَألْنَا المُفْتَئِتَ: هَلْ يَلْزَمُ زَمَنٌ، لِنَقْلِ الأحْدَاثِ، بِالصَوْتِ وَالصُورَةِ، مِن كَوْكَبِنَا إلَى كَوْكَبٍ ءَاخَرَ فِى مَجَرَّةٍ أخْرَى، لَقَالَ عَلَى الفَوْرِ: نَعَم.
وَلَوْ أتْبَعَنَا بِسُؤَالٍ تَالىٍ وَقُلْنَا: فَهَل تَنْتَقِلُ الأحْدَاثُ إلَى اللهِ بِغَيْرِ زَمَنٍ أم بِزَمَنٍ؟
أوْ بِصِيغَةٍ أُخْرَى: هَل يَعْلَمُ اللهُ الأحْدَاثَ لَحْظَةِ حُدُوثِهَا أمْ بَعْدَ زَمَنٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ؟
وَلاَ يَسَعُ المُفْتَئِتُ إلاَّ القَوْلُ بِأنَّ اللهَ يَعْلَمُ الأحْدَاثَ لَحْظَةِ حُدُوثِهَا، فَنَقُولُ لَهُ: فَأينَ الزَّمَنَ هُنَا؟!!!
وَكَيفَ عَلِمَ اللهُ سُبْحَانَهُ الأحْدَاثَ بِلاَ زَمَنِ انْتِقَالٍ؟ . . . عَجِيبَةٌ عُقُولُهُم!!
وَأخِيرًا: إذَا أنْتُم أقْرَرّتُم بِعَدَمِ حَاجَةِ اللهِ لِلزَّمَنِ لِلعِلْمِ بِالحَاضِرِ، وَلِسَمَاعِ النَّاس، وَرؤيَتِهِم، لإقْرَارِكُم ـ مَثَلاً ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
“.. إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ﴿٤٦﴾” طه.
فَلِمَ أوْجَدتُم هَذِهِ الحَاجَةِ لِلعِلْمِ بالمُسْتَقْبَلِ، مَا دَامَت قَوَانِينُكُم قَدْ كُسِرَت؟
ألَيْسَ هَذَا التَفْريقُ وَالتَقْسِيمُ مِن بَابِ الهَوَى (8)؟
إذًا فَمَعَ اللهِ تَعَالَى لاَ قَوَانِينَ فِيزْيَائِيَّةَ تُقَيِّدُهُ (وَحَاشَاهُ)، وَلاَ نِسْبِيَّةَ، وَلاَ زَمَنَ يَلْزَم لِنَقْلِ الوَاقِع إليْهِ.
1/5/5 ـ تَفَاعُل اللهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ:
عَرِفْنَا مِنَ الفَصْلِ الأَوَّلِ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ تَرَكَ جُزْءًا مِنَ الأَمْرِ لِتَفَاعُلِ النَّاس مَعَ رِسَالاَتِهِ، وَتَوَجُّهِهِم إلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِى يُجِيبُ المُضْطَّرَ إذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ:
“أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿٦٢﴾” النمل.
“قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُۥ تَضَرُّعًۭا وَخُفْيَةًۭ لَّئِنْ أَنجَىٰنَا مِنْ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ ﴿٦٣﴾ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍۢ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿٦٤﴾” الأنعام (9).
وَلَوْ قُلْنَا بِلِزُومِ بُعْدِ الزَّمَنِ فِى هَذِهِ العِلاَقَةِ لَفَسَدَت يَقِينًا، فَكَم مِنَ الزَّمَن يَلْزَم لِكَىّ يَنْتَقِلُ الدُّعَاءُ مِن كَوْكَبِنَا إلّى أن يَخْرُجَ مِن المَجَرَّةِ فالكَوْنِ، حَتَّى يَصِلُ إلَى اللهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، القَائِلُ:
“تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍۢ كَانَ مِقْدَارُهُۥ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍۢ ﴿٤﴾” المعارج.
وَحَتَّى بِفَرْضِ فَوْرِيَّةِ الإجَابَةِ، فَإِنَّ زَمَنَ صُعُودِ الدُعَاء كَافٍ وَحْدَهُ لإِفْسَادِ فَوْرِيَّةِ الإِجَابَةِ، وَبِالتَالِى فَلَن تَكَونَ هُنَاكَ إجَابَةً لِلمُضْطَّر، وَهُوَ بِعَكْسِ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى. وَبِالتَالِى فَإِنَّهُ يَلْزَمُ لِتَحَقُّقَ إجَابَةِ المُضْطَّر، وَإنْجَاءِ مَن بالسَفِينَةِ . . الخ، هُوَ أنْ يَتَلاَشَى بُعْدُ الزَّمَن. وَهُوَ بِعَكْسِ مَا يُرَوِّجُ لَهُ الجَهَلَةُ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ الكَرِيمِ كَمَا رَأينَا هُنَا، وَمَا سَنَرَاهُ بِكَثَافَةٍ فِيمَا هُوَ ءَاتٍ.
1/6/6 ـ إِنَّ اللهَ هُوَ خالقُ المَكَان، وَلَمْ يَمْنَعُهُ عَن شَيءٍ مِن مُلْكِهِ:
فَالمَكَانُ يُشَكِّلُ بُعْدًا كَبُعْدِ الزَّمَن، فَأَنْتَ إِذَا مَا ذَهَبْتَ مَثَلاً إلَى عَمَلِكَ فَأَنْتَ تَسِيرُ فِى بُعْدَينِ أسَاسِيِّيَنِ، أحَدُهُمَا هُوَ المَكَان، وَالأَخرُ هُوَ الزَّمَن، وَبِغَيْر اجْتِيَازِهِمَا فَلَن تَصِلَ إلَى عَمَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَائقٌ عَن الوُصُولِ إلاَّ بِاجْتِيَازِهِ. فَوَسِيلَةُ الانْتِقَال يَلزَمُهَا حَرَكَة، لِلتَخَلّصِ مِن عَائِق المَكَانِ الفَاصِل، وَالحَرَكَةُ يَلْزَمُهَا زَمَن. وَنَحْنُ إذَا مَا نَظَرنَا إلىَ بُعْدِ المَكَان لاَ نَجِدُهُ يُشَكِّلُ أى عَائِقٍ للهِ تَعَالَى القَائِلِ:
“وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ﴿٢١٧﴾ ٱلَّذِى يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ﴿٢١٨﴾” الشعراء.
“قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَـٰدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ ﴿١﴾” المُجَادِلَة.
وَلَوْ سَألْنَا المُفْتَئِتَ: هَلْ يُشَكِّلُ المَكَانُ وَالمَسَافَاتُ (عُمُومًا) عَائِقًا لِلسَمْعِ والرُؤْيَةِ، لَقَالَ عَلَى الفَوْرِ: نَعَم. وَلَوْ تَابَعْنَا وَقُلْنَا: فَهَل شَكَّلَ المَكَانُ وَالمَسَافَاتُ عَائِقًا للهِ تَعالَى فِى الأَيَاتِ الَّتِى ذَكَرْنَاهَا؟ فَلَنْ يَسَعَ المُفْتَئِتُ إلاَّ القَوْلَ بِلاَ، وَهُنَا نَسْأَلُهُ وَنَقُولُ: فَلِمَاذَا سَوَّيتَ بَينَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ فِى بُعْدِ الزَّمَن فَجَعَلْتَهُ عَائِقًا للهِ، وَفَرَّقْتَ هُنَا فَجَعَلْتَ المَكَانَ غَيْرَ عَائِقٍ؟ . . عَجِيبَةٌ عُقُولُهُم!
فَاللهُ تَعَالَى إذًا يَرَى، وَيَسْمَعُ كُلَّ مَكَانٍ فِى مُلكِهِ مَعًا، بِلاَ بُعْدٍ زَمَنِىٍّ، بَلْ وَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلجَبَل عَلَى الفَور أثْنَاء كَلاَمِهِ تَعَالَى لِمُوسى:
“وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَـٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّۭا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًۭا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿١٤٣﴾” الأعراف.
وَوَاضِحٌ أنَّ المَكَانَ لاَ يُشَكِّلُ أىّ عَائِقٍ للهِ تَعَالى، لِيَتَنَاولَهُ، أو يَجْتَازَهُ مِثل المَخْلُوقَاتِ مَهْمَا كَانت سُرْعَتُهَا.
1/7/7 ـ إِنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ عَن المُسْتَقْبَل بِصِيغَةِ المَاضِى:
فَنَظَرًا لأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لا يُقَيِّدُهُ الزَّمَن فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَن الأحداثِ المستقبليةِ بصِيغَةِ المَاضِي، وَلنُرَاجِعَ بَعْضَ ذَلِكَ:
فَلَفْظُ “ءَاتَى” (كَمِثَالٍ) المُفْتَرَضُ أنْ يُعَبِّرُ عَن المَاضِى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
“أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۖ …﴿٥٤﴾” النساء.
“وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ هُوَ خَيْرًۭا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّۭ لَّهُمْ ۖ …﴿١٨٠﴾” ءال عمران.
وَهَكَذَا يَفْعَلُ النَّاسُ فِى اسْتِخْدَامِهِم لِلَّفْظِ فِى كَلاَمِهِم. ولَكِنَّنَا سَنَجِدُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْتَخْدِمُهُ فِيمَا لَم يَحْدُث بَعد، مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ المُسْتَقْبَلَ هُوَ وَالمَاضِى عِنْدَ اللهِ سِيَّان، وَيَسْتَويَان، لِعِلمِهِ بِكِلَيْهِمَا، وَلِتَحَقُّق حُدُوثهمَا، وَلنُرَاجِع:
“إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍ ﴿١٥﴾ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ ۚ …﴿١٦﴾” الذاريات.
“إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَنَعِيمٍۢ ﴿١٧﴾ فَـٰكِهِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ …﴿١٨﴾” الطور.
لَمْ يَقُلْ اللهُ تَعَالَى (مَثَلاً): إنَّ المُتَّقِينَ سَيكُونُونَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَسَيَأخُذُونَ مَا سَيُؤتِيهِم رَبُّهُم. وَأيضًا كقولهِ تعالى:
“أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿١﴾” النحل.
لَمْ يَقُلْ اللهُ تَعَالَى (مَثَلاً): سَيَأتِى أمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوه، بَل هُوَ مُنْقَضٍ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ ءَاتَى، أمَّا بالنِسْبَةِ لِلنَّاسِ، فَهُوَ فِى الطَريقِ إلَيهِم، . . وَهَكّذَا. نَفْسُ الشَيْءِ نَجِدُهُ فِى أحْدَاثِ يَومِ القِيَامَةِ إذ يَتَنَاولُهَا اللهُ بِصِيغَةِ المَاضِى، كَقَولِهِ: “وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ”، “وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ..”، وَهَكَذَا دُونَ دَاعٍ لِلإطَالَةِ.
وَأَكْتَفِى بِهَذِهِ النِقَاطُ السَبْع، وَتَرَكْتُ الكَثِيرَ فِى هَذَا البَابِ، مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الكَثِيرينَ مُرُورَ الكِرَامِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِى طَيَّاتِهِ الكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَثَلاً: “يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ“، بَدَلاً مِن: “سَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ”، . . وَهَكَذَا.
والخُلاَصَةُ:
أنَّ مَا سَرَدْنَاهُ فِى هَذِهِ النِقَاطِ السَبْعَةِ الخَاصَّةِ بِبُعْدِ الزَّمِن، يُظْهِرُ جَلِيًّا أنَّ فِكْر شَحْرُور الَّذِى نَسَبَ نَفْسَهُ لِلفِكْر المُعَاصِر، هُوَ وَسَلَفُهُ مِنَ اليَهُود كَانَ فِكْرًا سَطْحِيًّا لِلغَايِةِ، وَبَعِيدًا عَن: نُصُوصِ كِتَابِ اللهِ، وَعَن فَهْم الكَوْنِ، وَعَن فَهْمِ الزَّمَنِ، وَعَن فَهْمِ الفَارِقِ بَيْنَ المَخْلُوقِ والخَالِقِ، وَالأهَمُّ هُوَ جَهْلُهُم بِاللهِ تَعَالَى؛ حَتَّى أنَّهُم ـ كَمَا رَأَينَا ـ:
● اعْتَبَرُوا أنَّ الزَّمَنَ قَيدٌ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِمَا سَيَحْدُثُ، حَتَّى يَحْدُث.
● أنَّهُم قَاسُوا حَالَ اللهِ عَلَى حَالِهِم، وَألْزَمُوا اللهَ بِدَينُونَتِهِم، وَمَحْدُوُدِيَّتِهِم.
● أنَّهُم لَم يَجُعَلُوا اللهَ سُبْحَانَهُ مَرْجِعًا لَهُم فِى أمْرٍ خَطِيِرٍ مِثْلَ ذَلِكَ الأَمْرُ.
● أنَّهُم تَجَاهَلُوا، أنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ الزَّمَن، فَلاَ يَصِحُّ مُجَرَّدِ التَفْكِير فِى أنَّ مَخْلُوقًا مَا، أصْبَحَ قَيْدًا عَلَى الخَالِقِ، وَحَاشَاهُ.
● أنَّهُم جَهَلُوا أوْ تَجَاهَلُوا تَغَيّر الزَّمَنِ فَجَعَلُوهُ مُطْلَقًا.
● أنَّهُم جَهِلُوا أنَّ لُزُومَ الزَّمَنِ، هُوَ خَاصٌّ بِفِيزْيَاءِ الكَونِ المَخْلُوقِ، بِمَن فِيهِ مِن مَخْلُوقَاتٍ، لاَ بِالخَالِقِ.
● أنَّهُم تَجَاهَلُوا مَسْألَةَ إِمْسَاكِ اللهِ بِكَوْنِهِ، وَأنَّ المُمْسِكَ بالكَوْنِ لاَبُدَّ وَأنْ يَكُونَ خَارِجَهُ، وَبِالتَالِى خَارِجَ قَوَانِينَهُ.
● أنَّهُم جَهِلُوا مَسْأَلَةَ تَفَاعُلَ اللهِ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ فِى اللاَزَمَنِ.
● أنَّهُم فَرَّقُوا بَيْنَ الزَّمَان، وَالمَكَانِ، بِغَيْرِ أىّ حُجَّةٍ.
● أنَّهُم أخِيرًا قَدْ تَجَاهَلُوا مَسْألَةَ كَلاَمِ اللهِ بِصِيَغِ المَاضِى، لِمَا لَمْ يَأتِ بَعْدُ؛ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ الأَزْمِنَةِ بِالنِسْبَةِ لَهُ تَعَالَى.
المِحْوَرُ الثَّانِى: النُصُوصُ القَطْعِيَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِمَا سَيَفْعَلُ العِبَادُ يَوْمَ القِيَامَةِ
إذَا مَا رَتَّلنَا الأَيَات الوَارِدَةَ فِى أحْدَاثِ يَوْمِ القِيَامَةِ فَسَنُلاَحِظُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ يَوْم القِيَامَةِ، بِمَا فِى ذَلِكَ أَفْعَالَ العِبادِ يَومِهَا، بَيْنَمَا هُوَ يَوْمٌ لَمْ يَأتِ بَعْدُ (بِالنِسْبَةِ لَنَا) لاَ زَمَانًا وَلاَ مَكَانًا، ولنُطَالِعُ بَعْضَ ذَلِكَ:
2/1/8 ـ حُوارُ اللهِ مَعَ عِيسَى:
يَقُولُ تعالى فِى سُورَةِ المَائِدَةِ:
“وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَـٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَـٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ ﴿١١٦﴾ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِۦٓ أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًۭا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ ﴿١١٧﴾“.
فَهَل مَا نَقَلَهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا مِن قَولِ النَّبيِّ عِيسَى فِي ذَلِكَ اليَوْمِ هُوَ حُوُارٌ مُفَبْرَكٌ، أم حَقّ؟
وَهَل هُوَ نَقْلٌ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، أمْ نَقْلٌ عَلَى وَجْهِ الاحْتِمَالِ كَمَا يَزْعُم شَحرور وَأشبَاهِهِ؟!
المُؤمِنُ يَقُولُ إنَّ هَذَا المَنقُول هُوَ حَقٌّ، وَسَيَحْدُثُ كَمَا نُقِلَ، وَذَاكَ لأَنَهُ كَلاَم اللهِ، واللهُ لاَ يَقُولُ إلاَّ حَقًّا. أمَّا المُتَشَكِّكُ فِى قُدْرَةِ اللهِ عَلَى العِلْمِ بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ العِبَادِ قِبل وُقُوعِهَا، والقَائلُ بِاحْصَائِيَّةِ واحْتِمَالِيَّةِ العِلْمِ فَتَقَعُ هَذِهِ الأيَات عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ أثْقَلُ مِن جَبَال الهيمَالاَيَا، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ لَمَحَاهَا مِن الكِتَابِ انْتِصَارًا لِهَوَاه، وَلاَ يَسَعهُ إلاَّ التَسْلِيم بِهَا، وَإن حَاولَ الالْتِفَافِ عَلَيْهَا لاَحِقًا.
2/2/9 ـ تَحَاجُجُ أَهْلِ النَّار:
نَقَلَ اللهُ هَذِهِ المُحَاجَّةِ بِسُورَةِ غَافِر فَقَالَ تَعَالَى:
“وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى ٱلنَّارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُا۟ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوٓا۟ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًۭا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًۭا مِّنَ ٱلنَّارِ ﴿٤٧﴾ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوٓا۟ إِنَّا كُلٌّۭ فِيهَآ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ ﴿٤٨﴾ وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِى ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُوا۟ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًۭا مِّنَ ٱلْعَذَابِ ﴿٤٩﴾ قَالُوٓا۟ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ ۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ ۚ قَالُوا۟ فَٱدْعُوا۟ ۗ وَمَا دُعَـٰٓؤُا۟ ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَـٰلٍ ﴿٥٠﴾“.
نُلاَحِظُ أنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ“، فَهَل يَقُولُ اللهُ حَقًّا، أم احْتِمَالاً؟!
فَإنْ كَانَ حَقًّا فَهُوَ نَقلٌ لِلمُحَاجَّةِ كَمَا سَتَحْدُثُ، قَبْلَ أن تَحْدُثَ، فَأينَ مَوْقِعَ الزَّمَنِ فِى المَوْضُوعِ، وَأيْنَ مَوقِع الاحِتِمَالاَتِ؟!
2/3/10 ـ حُوارُ أصْحَابِ الأَعْرَافِ:
يَقُولُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ:
“وَنَادَىٰٓ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّۭا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّۭا ۖ قَالُوا۟ نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌۢ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿٤٤﴾ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًۭا وَهُم بِٱلْءَاخِرَةِ كَـٰفِرُونَ ﴿٤٥﴾ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌۭ ۚ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌۭ يَعْرِفُونَ كُلًّۢا بِسِيمَىٰهُمْ ۚ وَنَادَوْا۟ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴿٤٦﴾ ۞ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـٰرُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ قَالُوا۟ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿٤٧﴾ وَنَادَىٰٓ أَصْحَـٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًۭا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ قَالُوا۟ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿٤٨﴾ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ٱدْخُلُوا۟ ٱلْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿٤٩﴾ وَنَادَىٰٓ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا۟ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ۚ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿٥٠﴾“.
فَهَل مَا نَقَلَهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا مِن قَولِ أصحَابِ الأَعْرَافِ، وَوَصفِ صَرفِ أبْصَارِهِم تِلْقَاءَ أصْحَابِ النَّار فِي ذَاكَ اليَوْمِ، والحِوَارَات الدَائِرَةُ بَينَ أصْحَابِ النَارِ وَأَصْحَابِ الجَنَّةِ هُوَ نَقْلٌ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، أمْ نَقْلٌ عَلَى وَجْهِ الاحْتِمَالِ كَمَا يَزْعُم شَحرور وَأشبَاهِهِ؟!
2/4/11 ـ حُوارُ أهْلِ الجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ:
يَقُولُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الصَافَّاتِ:
“فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ يَتَسَآءَلُونَ ﴿٥٠﴾ قَالَ قَآئِلٌۭ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌۭ ﴿٥١﴾ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ ﴿٥٢﴾ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًۭا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ﴿٥٣﴾ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ﴿٥٤﴾ فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ﴿٥٥﴾ قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴿٥٦﴾ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ ﴿٥٧﴾ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴿٥٨﴾ إِلَّا مَوْتَتَنَا ٱلْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٥٩﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿٦٠﴾ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ ﴿٦١﴾“.
فَهَل يَقُصُّ اللهُ تَعَالَى هُنَا احْتِمَالاً مِن الاحْتِمَالاَتِ، أم يَقُصُّ بِحَقٍّ مَا سَيَحْدُث يَومَ القِيَامَة؟!
وَهَل هُوَ قَصٌّ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، أمْ قَصٌّ عَلَى وَجْهِ الاحْتِمَالِ كَمَا يَزْعُم شَحرور وَأَشْيَاعُهُ؟!
وَهَل هُوَ بِصِيِغَةِ المُسْتَقْبَلِ أَمْ بِصِيِغَةِ المَاضِى؟!!!
2/5/12 ـ حُوارُ الشَيْطَانِ مَعَ حِزْبِهِ:
يَقُولُ تَعَالَى فِى سُورَةِ إبْرَاهِيم:
“وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى ۖ فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓا۟ أَنفُسَكُم ۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ ۖ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ ﴿٢٢﴾“.
وَوَاضِحٌ أنَّ تَوْقِيتَ كَلاَم الشَيْطَانِ هُنَا هُوَ بَعْدَ الفَصْلِ بَينَ العِبَاد، وَفِيهِ مَا نَرَاهُ مِن تَفْصِيلٍ لِمَا سَيُقَال، وَلَيْسَ عَلَىَ سَبِيلِ الاحْتِمَالِ كَمَا يُشَاع!
2/6/13 ـ حُوارُ اللهِ مَعَ أهْل جَهَنَّم:
ثُمَّ انْظُر إلَى هَذَا الحُوار الَّذِى نَقَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِسُورَةِ “المُؤْمِنُون”:
“وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ ﴿١٠٣﴾ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ ﴿١٠٤﴾ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿١٠٥﴾ قَالُوا۟ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًۭا ضَآلِّينَ ﴿١٠٦﴾ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ ﴿١٠٧﴾ قَالَ ٱخْسَـُٔوا۟ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴿١٠٨﴾ إِنَّهُۥ كَانَ فَرِيقٌۭ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰحِمِينَ ﴿١٠٩﴾ فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰٓ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴿١١٠﴾ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوٓا۟ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴿١١١﴾ قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴿١١٢﴾ قَالُوا۟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ فَسْـَٔلِ ٱلْعَآدِّينَ ﴿١١٣﴾ قَـٰلَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًۭا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١١٤﴾“.
تَجِدُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْألُ أهْلَ النَّارِ مِمَّن خَفَّت مَوَازِينُهُم، وَهُم يُجِيبُونَهُ، وَيَسْأَلُونَهُ أن يُخْرِجَهُم مِن النَّارِ، فَيَنْهَرَهُم، . . وَهَكَذَا.
فَهَل هَذَا الحُوَارُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الاحْتِمَالِ، أم أنَّهُ أمرٌ وَاقِعٌ لاَ مُحَالَة؟!
وَهَل هُوَ بِصِيِغَةِ المُسْتَقْبَلِ أَمْ بِصِيِغَةِ المَاضِى؟!!!
وَالخُلاَصَةُ:
أنَّ كُلَّ أَحْدَاثِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّتِى سَتَقَعُ فِي المُسْتَقْبَل قَدْ أخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَي بِالكَثِيرِ مِنْهَا، بِمَا فِى ذَلِكَ أفْعَالُ العِبَادِ يَومَئِذٍ. وَمِنهَا حِوَارَاتٌ جَرَت بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلٍ بِعَيْنِهِم (كَعِيسَى)، وَبَيْنَ الرُسُلِ عُمُومًا كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى بِسُورَةِ المَائِدَةِ: “۞ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا۟ لَا عِلْمَ لَنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ ﴿١٠٩﴾“، وَحِوَارَاتٌ جَرَت بَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ وَبَيْنَ أصْحَابِ الجَنَّةِ، وَبَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ، وَبَيْنَ الشَيْطَانِ وَبَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ الكَثِيرُ مِمَّا أورَدْنَاهُ هُنَا وَمِمَّا تَرَكْنَاهُ لِبَحْثِ القُرَّاءِ.
وَكَانَ المُفْتَرَض ـ طِبْقًا لِمَذْهَبَىِّ اليَهُودِ وَشَحْرُور فِى جَهْلِ اللهِ (وَحَاشَاهُ) بأعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَليَّةِ عُمُومًا أوْ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ ـ ألاَّ يَعْلَم اللهُ مَا سَيَقُولهُ عِيسَى عِنْدَمَا يَسْأَلهُ اللهُ تَعَالَى، وَألاَّ يُوردُ مِثلَ هَذَا الحُوَار ـ الأُخْرَويّ ـ بكِتَابهِ مِنَ اَلأَسَاسِ، وَأَلاَّ يَعْلَمُ أَيْضًا أَفْعَالَ، وَأَقْوَالَ النَّاسِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَأَصْحَابِ النَّارِ، وَمَالِكِ، وَأَصْحَابِ الجَنَّةِ . . الخ. وَلَكِنَّ الحَادِثَ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَي خَطَأِ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ أَصْحَابُ القَوْل الخَاطِئ، وَعَلَى أنَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ عِلمٌ مُحِيطٌ، وَعَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الاحْتِمَالِ هُوَ الحَقُّ، لاَ كَمَا يَتَوَهَّمُ قَلِيلُوا العِلْمِ والتَقْوَى، مِمَّن يُجَادِلُونَ فِى اللهِ تَعَالَى بِغَيرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ.
المحْوَرِ الثَّالِث: النُصُوصُ القَطْعِيَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِمَا سَيَفْعَلُ العِبَادُ (عُمُومًا).
بِخِلاَفِ مَا سَبَقَ سَنَجِدُ الكَثِيرِ مِن الأَيَاتِ النَاصَّةِ عَلَى عِلْمِ اللهِ المُسْبَقِ بِأعْمَالِ العِبَادِ، وَمِن ذَلِكَ:
3/1/14 ـ مَغْفِرَةُ اللهِ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأخّر:
يَقُوُلُ اللهُ تَعَالَي مُبَيِّنًا أنَّ الشِرْكَ إثْمٌ عَظِيمٌ:
“إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا ﴿٤٨﴾” النساء.
وَالنَصُّ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَذِّرًا إيَّاهُ مِن الوُقُوعِ فِى الشِرْكِ:
“وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ ﴿٦٥﴾” الزمر.
فَسَوَاءٌ وَقَعَ الشِرْكُ مِن مُقْتَصِدٍ أَوْ مِن مُحْسِنٍ ـ وَلَوْ كَانَ نَبيًّا ـ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ؛ وَلِذَا يَقُوُلُ سُبْحَانَهُ لِنَبيِّهِ مُحَمّد مُحَذِّرًا إيَّاهُ بَعْدَ أَنْ كَادَ أَنْ يَرْكَنَ لِلكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ شَيْئًا قَلِيلاً:
“وَإِن كَادُوا۟ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُۥ ۖ وَإِذًۭا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلًۭا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَـٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـًۭٔا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًۭا لَّأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًۭا ﴿٧٥﴾” الإسراء.
وَمَع كُلّ هَذِهِ المَحَاذِير المُحْتَمِلَةِ الوقُوعِ، فَإنَّنَا نَجِدُ بنَفْسِ الوَقْتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوُلُ لِنَبيِّهِ:
“إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًۭا مُّبِينًۭا ﴿١﴾ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَٰطًۭا مُّسْتَقِيمًۭا ﴿٢﴾” الفتح.
الَّذِي يَدُلُّ عَلي أنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ غَفَرَ للنَّبيّ مَا تَأخَّرَ مِن ذَنْبِهِ، أيّ مَا سَيأتي مُتَأخِّرًا إلي نِهَايةِ عُمرهِ.
وَلَوّ قُلنَا بأنَّ اللهَ تَعَالى ـ وَحَاشَاهُ ـ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَفْعَلُهُ النَبيُّ فِي المُسْتَقْبَلِ الأَتِي مِن حَيَاتِهِ إلاَّ عَلَى سَبِيلِ الاِحْتِمَالاَتِ، لَكَانَت هَذِهِ المَغْفِرَةِ الاسْتِبَاقِيَّةِ وَاقِعَةٌ فِي حَيِّز المُغَامَرةِ وَالمُجَازَفةِ؛ إذْ إنَّهُ هُنَاكَ احْتِمَالٌ قَائِمٌ أنْ يَقَعَ ثَمّةَ خَطَأٍ مَا، يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بهِ النَّبيّ فِي أَي شِركٍ وَلَوْ ضَئِيلٍ فِيمَا تَبَقَّى لَهُ مِن عُمُرِهِ، وَإلاَّ كَانَ قَولُهُ تَعَالَى بِسُورَةِ الزُّمَر: “وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ ﴿٦٥﴾” زَائِدًا وَلاَ حَاجَةَ لَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بِسُورَةِ ءَال عِمْرَان:
“وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّۦنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍۢ وَحِكْمَةٍۢ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌۭ مُّصَدِّقٌۭ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ ۚ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِى ۖ قَالُوٓا۟ أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَٱشْهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ ﴿٨١﴾ فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ ﴿٨٢﴾“.
فَتَحْذِيرُ اللهِ لِلنَبِيِّينَ مِن التَوَلِّى، يَجٍعَلُ ذَلِكَ مُمكِنَ الحُدُوثِ، وَإلاَّ كَانَ زَائِدًا، وَحَاشَا للهِ أنْ يَقُولَ حَرْفًا زَائِدًا فَضْلاً عَن كَلِمَةٍ أوْ ءَايَةٍ.
وَلَوْ صَحَّ مَا زَعَمُوهُ مِن جَهْلِ اللهِ تَعَالَيَ بأَفْعَالِ العِبادِ تَحْدِيدًا، لَكَانَت هَذِهِ المَغْفِرَةِ الاسْتِبَاقِيَّةِ ـ المَذْكُورَةِ لِرَسُولِ اللهِ ـ مُصَنَّفةٍ فِي تَحْسِينِ الظَنِّ، وَهُوَ مَا لاَ يَلِيقُ باللهِ تَعَالَى، وَإنَّمَا الصَحِيحُ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عِلمًا مُطْلَقًا أَنَّ نَبيَّهُ لَنْ يَقَعَ مِنْهُ فِيمَا تَبَقَّى مِن عُمُرهِ شِرْكٌ مَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الحُدُوثِ حَتَّى يُغَادِرُ النَبيُّ الحَيَاةَ الدُنْيَا. وَالسَبَبُ فِي هَذَا الاِسْتِبَاقُ هُوَ أنَّهُ لاَ يُوجَدُ زَمَنٌ مُسْتَقْبَلٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإنَّمَا كُلّ هَذِهِ الأَحْدَاثِ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ هِىَ فِي حُكْمِ المَاضِي وَالحَاضِر، وَلاَ يَعْزُبُ عُنْهُ مِثقَال ذَرَّةٍ مِن غَيْبٍ إلاَّ وَهُوَ يَعْلَمُهَا سَبْحَانَهُ:
“عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿١٨﴾” التغابن.
3/2/15 ـ مسألةُ التقاطِ مُوسَى:
يَقُوُلُ اللهُ تَعَالَي فِى قِصَّةِ نَبِيِّهِ مُوسَى:
“.. إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ ﴿٣٨﴾ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّۭ لِّى وَعَدُوٌّۭ لَّهُۥ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةًۭ مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىٓ ﴿٣٩﴾” طه.
وَنُلاَحِظُ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: “يَأْخُذْهُ عَدُوٌّۭ لِّى وَعَدُوٌّۭ لَّهُۥ“، الَّذِي يُبَيِّنُ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بأَفْعَالِ العِبادِ فِي المُسْتَقْبَلِ لِتَعَلُّقِهِ بعَمَلِ العَدُوِّ (فِرْعَوْن) المُسْتَقْبَلِيّ، الَّذِي سَيَظَلُّ عَلَي عَدَاوَتِهِ للهِ، ولِلمُؤمِنِ مُوسَى، وَسَيَأخُذُ مُوسَى، وَيَعْتَنِي بهِ، وَيُرَبّهِ، ويَحْتَضِنُهُ. وَكَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ مُوسَىَ بمُجَرَّدِ أَنْ تَنَالَهُ يَدَاهُ، حَيْثُ كَانَ يُذَبِّحُ مَوَالِيدَ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَئِذٍ، أَوْ أَنْ يُؤمِنَ فِرْعَوْنُ مُسْتَقْبَلاً، وَبَابُ الاحْتِمَالاَتِ كَانَ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيهِ، بمَا لاَ يُتِيحُ لِمَن يَجْهَل أَعْمَالَ العِبَادِ المُسْتَقْبَليِّةِ أَنْ يُحَدِّدَ مَا سَيَحْدُث عَلَي وَجْهِ اليَقِينِ، وَلَكِنَّ “عَالِمُ أَفْعَال العِبَادِ” فِي المُسْتَقْبَل ـ سُبْحَانَهُ ـ قَالَ لأِمِّ مُوسَي (تَحْدِيدًا لاَ احْتِمَالاً):
“..فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿٧﴾” القصص.
فتَعَدَّىَ سُبْحَانَهُ العِلمَ بمَا سَيَفْعَلُهُ فِرْعَونُ إلَي كُلِّ مَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَمِن غَيْرِهِ. وَلَوْ أنَّ عِلْمَ اللهِ احْتِمَالِىٌّ لَمَا قَالَ تَعَالَى بِمَا سَيَقَعُ مِن فِرْعَون عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ (10).
3/3/16 ـ كِتَابَةُ عُمْر المُنْتَحِر:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِي مسألةِ الأعْمَار:
“..وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًۭا ﴿٢٩﴾” النساء.
وَمَعْلُومٌ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ عُمرًا يُعْتَبَرُ حَدًّا أقْصَىً لَهَا، وَبِالتَالِى فَيُمْكِنُ لِلنَفْسِ أنْ تَسْتَكْمِلَ عُمُرَهَا، وَيُمْكِنُ أنْ تُنْقِصَهُ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ جِدًا، مِنهَا قَتْلُ نَفْسِهَا بِالانتِحَار، والتَدْخِين، وَشُرْبِ الكُحُولِّ، . . الخ. وَمَفْهُومُ الأَجَل الوَارِدِ فِى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا” يَعْنِى أنَّهُ إذَا مَا تَوَفَّرَت الأَسْبَابُ المُفْضِيَةُ إلَى المَوْتِ فَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ هَذِهِ النَفْس وَلاَ لِلَحْظَةٍ (11).
وَفِى مَسْألَةِ نَقْص العُمُرِ يَقُولُ تَعَالَى:
“وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَٰجًۭا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِۦ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍۢ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِى كِتَـٰبٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌۭ ﴿١١﴾” فاطر.
وَنُلاَحِظُ أنَّ كُلاًّ مِنَ المُعَمِّر وَنَاقِصَ العُمْرِ قَدْ كُتِبَت أعْمَارهِمَا فِى كِتَابٍ، وَلَوْ لَم يَكُن الله يَعْلَم أعْمَال العِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَمَا كُتِبَ عُمْرُ المُنْتَحِر وَأشبَاهِهِ.
والسُؤَالُ الأَن لِمُدَّعِى العِلم هُوَ: هَل كَتَبَ اللهُ الأعْمَارَ، بِمَا فِى ذَلِكَ الأعْمَارَ النَاقِصَةَ كَنَتِيجَةٍ لِفِعْلِ صَاحِبهَا، عَلَى سَبيلِ العِلْمِ المُحَدَّدِ أم عَلَى سَبيل الاحْتِمَال؟!
3/4/17 ـ النَصُّ عَلَى العِلْمِ بَمَا خَلْفَ النَّاسِ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ:
“..يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ …﴿٢٥٥﴾” البقرة.
“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلْمًۭا ﴿١١٠﴾” طه.
“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ ﴿٧٦﴾” الحج.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا خَلْفَهُم تَعْنِي مَا سَيَأتِي بَعْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
“وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا۟ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةًۭ ضِعَـٰفًا خَافُوا۟ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُوا۟ قَوْلًۭا سَدِيدًا ﴿٩﴾” النساء.
وَمِن غَيْرِ المَقْبُولِ عَلَى اللهِ أن يَكُون هُنَا عِلمَان، أحَدُهُمَا (مَا بَينَ أيدِيهِم) يَقِينِى، وَالأَخَرُ (مَا خَلْفَهُم) احْتِمَالِىٌّ، ثُمَّ يُبْهِمُ اللهُ الفَرقَ بَينَهُمَا، وَيَضَعْهُمَا فِى سِيَاقٍ وَاحِدٍ هَكَذَا؛ إذ إنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِن مَخْلُوقٍ لَسُمِّىَ تَدْلِيسًا، وَحَاشَا لِلّهِ مِثْلَ ذَلِك.
3/5/18 ـ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ:
أخْبَرَ اللهُ تَعَالَي عَنْ المُخَلَّفِين مِن الأَعْرَابِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ مُسْتَقْبَلاً:
“سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ …﴿١١﴾” الفتح.
ثُمَّ قَالَت الأعْرَابُ نَفس مَا أخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى، فَهَل كَانَ إخْبَارُ اللهِ بعِلْمٍ أم باحْتِمَالٍ؟!
ثُمَّ أصْدَرَ اللهُ حُكْمَهُ فِيهِم فَقَال:
“فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍۢ مِّنْهُمْ فَٱسْتَـْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا۟ مَعِىَ أَبَدًۭا وَلَن تُقَـٰتِلُوا۟ مَعِىَ عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ فَٱقْعُدُوا۟ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ ﴿٨٣﴾” التوبة.
ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعَالَي بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ المُخَلَّفِين مِن الأَعْرَابِ أنَّهُم مُسْتَقْبَلاً سَيُحَاولُونَ الالْتِفَافَ عَلَى حُكْمِهِ، وَيَطْلُبُونَ الخُرُوج مَع المُؤْمِنِين، وَوَجَّهَهُم إلى رَفْضِ طَلَبِهِم:
“سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا۟ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا۟ لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا ﴿١٥﴾” الفتح.
وَقَدْ حَدَثَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى بالضَبط. وَلَوْ افْتَرَضْنَا أنَّ العِلمَ احْتِمَالِىّ، لَكَانَ هُنَاكَ احْتِمَال بِألاَّ يَقُولَ المُخَلَّفُونَ ذَلِك، وَلَكِنَّ اللهَ سَاقَ قَولَهُم الَّذِى حَدَثَ بَعْدُ فِعْلاً كَمَا قَال، فَأينَ السَبِيل لِلقَولِ بِالعِلمِ الاحْتِمَالِىّ هُنَا (12)؟!
3/6/19 ـ القُرَى المُهْلَكَةِ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ القُرَى المُهْلَكَةِ:
“وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًۭا شَدِيدًۭا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُورًۭا ﴿٥٨﴾” الإسراء.
فَهَل هَذَا كِتَابٌ كُتِبَ، أَمْ احْتِمَالٌ كُتِبَ؟، وَهَلْ كُتِبَ هَذَا الإِهْلاَكُ وَالعَذَابُ مُجَازَفَةً وَدُونَ عِلْمٍ بِالقَرْيَةِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، أَمْ أنَّه كُتِبَ بُنَاءً عَلَى عِلْمٍ أَزَلِيٍّ يَقِينِيٍّ، وَمُحَدَّدَةٌ فِيِهِ القَرْيَةُ، وَزَمَنُ إهْلاَكِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ؟!
وَلِقَائِلٍ أن يَقُول: إذَا كَان هَذَا الإهْلاَك لِلقَرْيَةِ قَدْ كُتِبَ فِى الكِتَابِ بُنَاءً عَلَى إفْسَادِهَا، فَكَيْفَ سَيَكْتُبُ اللهُ أعْمَال أهْلِهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا إذًا؟!
وَالجَوَاب أَنَّ الإهْلاَكَ كُتِبَ بُنَاءً عَلَى العِلْمِ، أمَّا الأعْمَال فَتُكْتَبُ بُنَاءً عَلَى العَمَلِ، أىّ حِينَ حُدُوثِهَا. وَلْنَضْرِبُ مَثَلاً بِقَوْمِ نُوحٍ:
عَصَى قَومُ نُوحٍ رَبَّهُم، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إنَّ مُكْثَ نُوحٍ فِيهِم لِمَا يَقْرُبُ مِن الألْفَ سَنَةٍ لَم يُجْدِ:
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًۭا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ ﴿١٤﴾” العنكبوت.
كُلَّ يَوْمٍ مِن هَذِهِ الأَيَّام تُكْتَبُ فِيهِ أعْمَالُ القَوْمِ أوَّلاً بِأَوَّلٍ، حَتَّى حَانَ وَقْتُ إهْلاَكِهِم. وَهُنَا سَنُلاَحِظُ أنَّ إهْلاَكَهُم كَانَ مُقَدَّرًا مِن قِبْلِ. يَقُولُ تَعَالَى فِى سُورَةِ القَمَر:
“فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍۢ ﴿١١﴾ وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًۭا فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ ﴿١٢﴾“.
فَأَمْرُ الإهْلاَكِ قَدْ قُدِرَ، بَينَمَا الأعْمَالُ لاَزَالَت تُكْتَبُ، وَلاَ تَعَارُضَ فِى ذَلِكَ، كَمَا سَنَعْرِفُ لاَحِقًا.
3/7/20 ـ دُخُولُ المَسْجِدِ الحَرَامِ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِى مَسْألَةِ دُخُوُلِ المَسْجِدِ الحَرَامِ:
“لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًۭا قَرِيبًا ﴿٢٧﴾” الفتح.
فَهَذَا الَّذِى حَدَثَ وَاقِعًا، قَدْ أرَاهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِى الرُّءْيَا مِن قَبْل حُدُوثِهِ بِزَمَانٍ، ثُمَّ قَال: “لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ”. فَهَل يُقَالُ إنَّ مَا أراهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِن قَبْل حُدُوُثِهِ هُوَ مِن بَابِ الاحْتِمَالاَتِ، أم مِن بَابِ إحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ، مِن قَبْلِ أن يَحْدُث. وَألَيْسَ هَذَا الدُخُوُل هُوَ مِن أعْمَالِ العِبَادِ أمْ لَيْسَ مِن أعْمَالِهِم؟!
3/8/21 ـ إفْسَادُ بَنِى إسْرَائِيل:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِى مَسْألَةِ إفْسَادِ بَنِى إسْرَائِيل:
“وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّۭا كَبِيرًۭا ﴿٤﴾ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًۭا لَّنَآ أُو۟لِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًۭا مَّفْعُولًۭا ﴿٥﴾” الإسراء.
سَيُفْسِدُ بَنُو إسْرَآءِيلَ ـ طِبْقًا لِلنَصِّ ـ مَرَّتَيْنِ، فَهَل هَذَا الإفْسَادُ المُعْلَنُ عَنْهُ هُوَ أمْرٌ مُسْتَقْبَلِىٌ أم لا؟ وَهَل هُوَ مِن أعْمَال العِبَادِ أم لاَ؟ فَإنْ كَانَ هَذَا الإفْسَادُ سَيَحْدُثُ مُسْتَقْبَلاً، وَمِن أعْمَالِ العِبَادِ فَهَل عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ حُدُوثِهِ أم لا؟!
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
“..فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُۥٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا ﴿٧﴾” الإسراء.
وَوَاضِحٌ تَمَامًا أنَّ عِلمَ اللهِ مُحِيطٌ، وَعَلَى سَبِيلِ التَحْدِيدِ ـ كَمَا رَأينَا فِى الأَيَاتِ ـ لاَ عَلَى سَبِيلِ الاحْتِمَالِ، وَعَلَى الجَاهِل أن يَتَعَلَّم.
3/9/22 ـ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ:
“وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًۭا ۚ وَإِن يَرَوْا۟ كُلَّ ءَايَةٍۢ لَّا يُؤْمِنُوا۟ بِهَا ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّآ أَسَـٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿٢٥﴾ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْـَٔوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٢٦﴾ وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ يَـٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٧﴾ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ ﴿٢٨﴾“.
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. فَهَل عَوْدَتُهُم لِمَا نُهُوا عَنْهُ هِىَ عَوْدَةٌ لِمُمَارَسَةِ مَا سَبَقَ مِن أعْمَالِ العِبَادِ أم لاَ؟ فَإذَا كَانَت الإجَابَةَ بَالإيجَابِ أفَلاَ يَكُونُ اللهُ مُحِيطٌ بِأعْمَالِ العِبَادِ الَّتِى سَتَقَعُ مِنْهُم مُسْتَقْبَلاً؟!
3/10/23 ـ الجَزْمُ بِأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ أحَدٌ مِنْ قَوْمِ نُوُحٍ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ قَوْمِ نُوُح:
“وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ …﴿٣٦﴾” هود.
وَلَوْ سَأَلْنَا المُفْتَئِتَ: ألَيْسَ إيمَانُ النَّاسِ مِن أعْمَالِهِم القَلْبِيَّةِ؟ لَقَالَ: نَعَمََ
وَلَوْ تَابَعَنَا وَسَألْنَاهُ: ألَم يُخْبِر اللهُ نَبِيَّهُ نُوحَ بِمَا سَيَقَعُ مِنْ قَوْمِهِ مُسْتَقْبَلاً؟ لأجَابَ (مُضْطَّرًا) بِالإِيجَاب!!
فَنَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ نَصَّبَتَ مِن نَفْسِكَ حَكَمًا عَلَى عِلْمِ اللهِ وَأَنْتَ تَجْهَلَ كُلَّ هَذَا؟
ألَم تَكُن هَذِهِ الأَيَةِ وَحْدَهَا تَكْفِي فِي بَيَانِ أنَّ اللهَ تَعَالَي يَعْلَمُ أعْمَالَ العِبَادِ مِن قَبْلِ أَنْ تَقَعَ؟!
وَلَوْ قَالَ المُفْتَئِتُ بِأنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى النَّفْسِ لَحْظَة إضْمَارِهِ (كَمَا قَالَ فِى مَسْألَةِ إيمَانِ أبِى بَكْرٍ)، وَبالتَالِى فَقَدْ عَلِمَ مَا فِى أنْفُسِ قَومِ نُوحٍ لَحْظَتَهَا، وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولِهِ، لَقُلْنَا لَهُ: أتَرَى أنَّ اللهَ تَعَالَى يُخْبِرُ هُنَا عَن الحَاضِرِ، أم عَن المُسْتَقْبَل؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَ القَولَ بِالمُسْتَقْبَل!!!
فَنَقُولُ لَهُ: نَحْنُ نُشَاهِدُ تَقَلُّبَ النَّاسِ وَتَغَيُّرَ مَا فِى أنْفُسِهِم مَع الوَقتِ فَهَل تُجِيزَ ذَلِكَ، أم تَقُولَ بِثَبَاتِ مَا فِى الأنْفُسِ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَ القَولَ بِالتَغَيُّرِ!!!
فَنَقُولُ لَهُ فَهَل تُجِيزُ (بَعِيدًا عَمَّا أخْبَرَ اللهُ بِهِ) أنْ يَتَغَيَّرَ حَالَ بَعضِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ الوَقْتِ أم لاَ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالإِيجَابِ!!!
فَنَقُولُ لَهُ: قَدْ نَقَضّتُ بِذَلِكَ قَولَكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَنَى عِلْمَهُ عَلَى الاحْتِمَال، أوْ عَلَى مَا فِى الأنْفُسِ.
ثُمَّ نُزِيدَهُ وَنَقُولُ: ألَيسَ إخْبَارُ اللهِ هُنَا يَشْمَلُ الصَغِيرَ إذَا مَا كَبُرَ، وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالإِيجَابِ، فَنَقُولُ لَهُ: فَهَلْ كَانَ فِى نَفْسِ الطِفلِ وَالرَضِيعِ إيمَانٌ وَقْتَ الإخْبَارِ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالنَفْىّ، فَنَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ تَقُولُ إذًا بِأَنَّ اللهَ أخْبَرَ بُنَاءً عَلَى مَا فِى الصُدُورِ، وَهُوَ هُنَا مُنْعَدِمٌ؟ قَدْ نَقَضّتُ بِذَلِكَ قَولَكَ الأَوَّل، وَتَبَيَّنَ أنَّ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّهُم لَنْ يُؤمِنُوا مَهْمَا طَالَ بِهِم الزَّمَن، طِفْلَهُم، وَشَيْخَهُم، وَحَتَّى مَن سَيُولَدُ بَعْدٌ لَوْ وُلِدَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لاَ يَقُولُ مِثلَ ذَلِكَ بَالاِحْتِمَال، فَكُفَّ عَنِ النَّاسِ أذَاكَ!
وَالخُلاَصَةُ:
أنَّنَا قَدْ رَأيْنَا فِى هَذَا المِحْوَر الثَالِثِ كَيْفَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأخّر، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَحْدُثَ لَوْلاَ عِلْمُ اللهِ بِسَلاَمَةِ رَسُولِهِ مِنَ الشْرِكِ حَتَّى نِهَايَةِ عُمُرِهِ، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ مُوسَى، قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ كِتَابَةِ عُمْر المُنْتَحِر مِن قَبْلِ أنْ يَنْتَحِر، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى العِلْمِ بَمَا خَلْفَ النَّاسِ، وأخْبَرَ بِمَا سَيَقُولُهُ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ مِن قَبْلِ أنْ يَقُولُوه، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ القُرَى المُهْلَكَةِ بِسَبَبِ أعْمَالِهَا، وَكَيْفَ أنَّ الإهْلاَكَ كَانَ مَكْتُوبٌ مِن قَبْلِهَا، وَرَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أخْبَرَ بِدُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَبِإفْسَادِ بَنِى إسْرَائِيل مَرَّتَيْنِ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، وَأخِيرًا فَقَدْ رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلهُ قَوْمُ نُوُحٍ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ رَسُولَهُ نُوحَ بِذَلِكَ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ، مَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكَوْنِهِ، بِمَا فِى ذَلِكَ العِبَادِ، وَأعْمَالِهِم.
رَابِعًا: عِلمُ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَن يَكُون (كَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ لَوْ كَانَ):
العِلْمُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ. إلاَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ عِلْمُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ عِلْمٌ. وَبِالتَالِى فَلَنْ يَسْتَطِيعَ أحَدٌ كَائِنًا مَن كَانَ أنْ يَعْرِفَ شَيئًا مَا عَن هَذَا العِلْمِ إلاَّ أنْ يُخْبِرَ اللهُ بِهِ. وَقَدْ عَرِفْنَا مِنَ المَحَاورِ السَابِقَةِ كَيْفَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، بِمَا فِى ذَلِكَ أعْمَالُ العِبَادِ:
“ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿١٢﴾” الطلاق.
لَم يَتَوَقَّفُ الأَمْرُ عِنْدَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ، وَإنَّمَا تَعَدَّاهُ إلىَ مَاهُوَ أكْثَرُ مِنْهُ، فَقَدْ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلى أنَّ عِلْمَهُ هُوَ عِلْمٌ تَجْريدِىٌّ، بِمَعْنَى أنَّهُ عِلْمٌ مُجَرَّدٌ مِنَ الوَاقِعِ وَالحُدُوثِ، أوْ بِصِيغَةٍ أُخْرَى هُوَ عِلْمٌ بِالوَاقِعِ وَبِمَا سَيَكُونُ مِن غَير تَحَقُّقِ هَذَا الوَاقِع، وَبِمَا فِى ذَلِكَ مَا لَنْ يَكُوُنَ، كَيفَ كَانَ سَيَكُونُ، لَوْ كَان. أى أنَّ التَجْريدَ يَعْنِى هُنَا العِلْمَ بِمَا سَيَكُونُ فِى أىّ اتِجَاهٍ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لَوْ شَاءَهُ اللهُ، أوْ لَمْ يَشَأهُ، وَلْنُطَالِعُ بَعْضَ ذَلِكَ:
4/1/24 ـ عِلْمُ اللهِ بِمَا سَيَقُولُهُ المُجْرِمُونَ لَوْ فَتَحَ عَلَيْهِم بَابًا مِن السَمَاءِ:
يَقُولُ الحَقُّ تَعَالَى: “وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّوا۟ فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴿١٤﴾ لَقَالُوٓا۟ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌۭ مَّسْحُورُونَ ﴿١٥﴾” الحجر.
لَنْ يُفْتَحَ بَابٌ مِنَ السَمَاءِ، وَلَنْ يَعْرُجَ المُجْرِمُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَاذَا سَيَكُونُ مِنْهُم عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ لَوْ شَاءَ ذَلِكَ، . . سُبْحَانَك رَبِّى وَتَقَدَّسْت، وَوَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ عِلْمًا.
4/2/25 ـ عِلْمُ اللهِ بِمَا سَيَقُولُهُ الكُفَّارُ لَوْ جَعَلَ القُرْءَان أعْجَمِيًّا:
يَقولُ تَعَالَى: “وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّۭا لَّقَالُوا۟ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُۥٓ ۖ …﴿٤٤﴾” فصلت.
لَنْ يَجْعَلَ اللهُ القُرْءَانَ أعْجَمِيًّا، وَلَكِن لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ؛ لَقَالوَا مَا نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالتَحْدِيدِ: “لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ”.
وَدُونَ دَاعٍ للإِطَالَة فَالأَيَاتُ كَثِيرَةٌ فِى البَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
“…وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَـٰدِ ۙ …﴿٤٢﴾” الأنفال.
“…وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًۭا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ…﴿٤٣﴾” الأنفال.
“وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰبًۭا فِى قِرْطَاسٍۢ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا سِحْرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿٧﴾” الأنعام.
“وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُم بِعَذَابٍۢ مِّن قَبْلِهِۦ لَقَالُوا۟ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًۭا فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ ﴿١٣٤﴾” طه.
كُلُّ هَذَا (وَغَيْرُهُ عَشَرَات الأياتِ)، يَنُصُّ عَلَى عِلْمِ اللهِ التَجْرِيدِىِّ، المُجَرَّدِ عَن الوَاقِعِ، وَالمُحِيطِ أيضًا بِكُلِّ مَالَنْ يَكُونَ؛ كَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ لَوْ كَانَ. فُسُبْحَانَ مَن تَجَرَّدَ عِلْمُهُ عَنْ خَلْقِهِ، فَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا:
“..وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿٨٠﴾” الأنعام.
“وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍۢ مُّحِيطًۭا ﴿١٢٦﴾” النساء.
“إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًۭا ﴿٩٨﴾” طه.
خامِسًا: عِلْمُ بَعْضِ العِبَادِ بِبَعْضِ مَا سَيَعْمَلَهُ غَيْرُهُم مِن العِبَادِ:
بَلَغَ الجَهْلُ بِعِلْمِ اللهِ، مِن شَحْرُورٍ وَأشْبَاهِهِ، كُلَّ مَبْلَغٍ، حَتَّى أنَّ القَاريءَ لِيَنْدَهِشَ هُنَا مِن أنَّ هَؤلاَءِ يُقِرُّونَ ـ اضْطِرَارً ـ لِبَعْضِ الأَنْبِيَاءِ بالعِلْمِ بِأعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، بِنَفْسِ الوَقْتِ الَّذِى مَنَعُوهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِى أعْلَمَ هَؤلاَءِ الأنْبيَاء بِمَا قَالُوه وَأنْبَأوا بِهِ؛ وَلْنُطَالِعُ بَعْضَ ذَلِكَ:
5/1/26 ـ عِلْمُ عِيسَى بِأعْمَالِ بَعْضِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ:
يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ عَن نَبِيِّهِ عِيسَى:
“وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةًۭ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٤٩﴾” ءَال عمران.
فَعِيسَى عِنْدَهُ القُدْرَةَ، عَلَى أنْ يُنَبِّئَ أىَّ وَاحِدٍ، مِن بَنِى إسْرَآءِيل (مِن مُعَاصِريهِ)، بِمَا سَيَأكُل: “وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ”. وَالسُؤَالُ هُنَا لِلمُفْتَئِتِ عَلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ:
هَلْ فِعْلُ الأَكْلِ وَاخْتِيَارِهِ هُوَ عَمَلٌ أمْ لاَ؟
وَهَلْ الزَّمَنُ الَّذِى سَيَتَنَبَّأُ بِهِ عِيسَى هُوَ زَمَنٌ مُسْتَقْبَلِىٌّ أم لاَ (13)؟
فَإِذَا كَانَ الأَكْلُ هُوَ عَمَلاً وَاخْتِيَارًا، وَالزَّمَنُ مُسْتَقْبَلِيًا فَكَيْفَ عَلِمَ عِيسَى ذَلِكَ؟
ألَمْ يَكُن الإخْبَارُ هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى؟!
أم أنَّ عِيسَى يَعْلَمُ عِلْمًا خَاصًّا وَمُسْتَقِلاً، واللهُ (وَحَاشَاهُ) لاَ يَعْلَمُ؟
5/2/27 ـ عِلْمُ يُوسُفَ بِأعْمَالِ بَعْضِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ:
يَقُولُ تَعَالَى عَن نَبِيِّهِ يُوسُف عِنْدَمَا قَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبَاهُ بِالسِجْنِ رُؤيَاهُمَا:
“يَـٰصَىٰحِبَىِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُۥ خَمْرًۭا ۖ وَأَمَّا ٱلْءَاخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِۦ ۚ قُضِىَ ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴿٤١﴾” يوسف.
فَيُوسُف عَلِمَ مِنَ الرُؤىَ بِمَا سَيَحْدُث لِصَاحِبَىِّ السِجْنِ مُسْتَقْبَلاً، وَمِن ذَلِكَ مَا سَيَفْعَلُهُ أحَدُهُما مِن سِقَايِةِ رَبِّهِ الخَمْر. وَهَذِهِ السِقَايَةِ هِىَ ـ بَدَاهَةً ـ مِن أعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ.
إذًا فَقَدْ اسْتَوْدَعَ اللهُ تَعَالَى، بَعْضَ أعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، فِى رُؤَىَ البَعْضِ، بِحَيثُ يَتَمَكَّنُ مَن عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى تَأويِلِ هَذِهِ الرُؤَى، مِنَ الإحَاطَةِ بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ هَؤلاَءِ الرُؤَاةِ (14).
5/3/28 ـ عِلْمُ عِيسَى بِبَعْضِ أعْمَالِ نَفْسِهِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ:
يَقُولُ تَعَالَى عَن نَبِيِّهِ عِيسَى وَأُمِّهِ بِسُورَةِ مَرْيَم:
“فَأَتَتْ بِهِۦ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُۥ ۖ قَالُوا۟ يَـٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْـًۭٔا فَرِيًّۭا ﴿٢٧﴾ يَـٰٓأُخْتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍۢ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّۭا ﴿٢٨﴾ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا۟ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيًّۭا ﴿٢٩﴾“.
إذًا فَسَيَتَكَلَّمُ عِيسَى وَهُوَ طِفْلٌ حَدِيثُ الولاَدَةِ، تَحْمِلُهُ أُمُّهُ؛ فَانْظُر مَاذَا سَيَقُولُ:
“قَالَ إِنِّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِىَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّۭا ﴿٣٠﴾ وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّۭا ﴿٣١﴾ وَبَرًّۢا بِوَٰلِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًۭا شَقِيًّۭا ﴿٣٢﴾ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّۭا ﴿٣٣﴾“.
وَالسُؤَالُ الأَوَّلُ هُنَا هُوَ: هَلْ كَانَ عِيسَى حُرًّا فِيمَا سَيَفْعَلُهُ مُسْتَقْبَلاً؟!
وَالسُؤَال الثَانِى هُنَا هُوَ: إذَا مَا كَانَ عِيسَى حُرًّا فِيمَا سَيَفْعَلُهُ مُسْتَقْبَلاً، أفَلَمْ يَكُن مُتَاحًا لَهُ أنْ يَنْقُضَ أىّ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ عِنْدَ مَوْلِدِهِ، كَالبِرِّ بِالوَالِدَةِ، أوْ المُحَافَظَةِ عَلَى الصَلاَةِ، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَوْ الشِرْكِ نَفْسَهُ؟!
إذًا هُنَا مَسْأَلَتَان؛ أوَّلُهُمَا، مَسْألَةُ عِلْمِ اللهِ تِعَالَى بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ عِيسَى فِى المُسْتَقْبَلِ. وَالثَانِيَةُ، مَسْألَةُ عِلْمِ عِيسَى بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ نَفْسِهِ فِى المُسْتَقْبَلِ. وَمَا كَانَ لَهُ أنْ يَعْرِفَ مِنْهَا شَيئًا لَوْلاَ أنْ أخْبَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ، وَيُعَلِّمُ بِمَا سَيَكُونُ مِن عِبَادِهِ مُسْتَقْبَلاً.
5/4/29 ـ عِلْمُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ بِأعْمَالِ بَعْضِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ:
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَّمَ يُوسُفَ تَأوِيِلِ الأَحَادِيِثِ فَقَالَ:
“وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ…﴿٦﴾” يُوسُف.
“..وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ…﴿٢١﴾” يُوسُف.
وَقَالَ تَعَالَى نَقْلاً عَنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلاَم:
“۞ رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ…﴿١٠١﴾” يُوسُف.
وَيَقُولُ تَعَالَى عَن نَبِيِّهِ يُوسُف عِنْدَمَا قَصَّ عَلَي أبيهِ رُؤيَاهُ:
“إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًۭا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـٰجِدِينَ ﴿٤﴾ قَالَ يَـٰبُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰٓ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا۟ لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لِلْإِنسَـٰنِ عَدُوٌّۭ مُّبِينٌۭ ﴿٥﴾” يوسف.
فَيُوسُف عَلِمَ مِنَ الرُؤيَا المَقْصُودُ مِنْهَا، وَكَذَا عَلِمَهَا أبُوهُ يَعْقُوبُ، وَلِذَا طَلَبَ مِنْهُ ألاَّ يَقُصُّ رُؤيَاهُ عَلَى إخْوَتِهِ. وَوَاضِحٌ أنَّ الرُؤْيَا فِيهَا عَمَلُ غَيْرِهِ، وَهُم إخْوَتِهِ، وَأبَوَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ مُسْتَقْبَلاً. وَهُوَ مَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِى نِهَايَةِ السُورَةِ:
“فَلَمَّا دَخَلُوا۟ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُوا۟ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ ﴿٩٩﴾ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدًۭا ۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـٰىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّۭا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِىٓ إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِنۢ بَعْدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىٓ ۚ إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌۭ لِّمَا يَشَآءُ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ﴿١٠٠﴾” يُوسُف.
أَضِف مَا جَاءَ هُنَا إلَى مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ عَن قُدْرَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيَفْعَلُهُ صَاحِبُهُ فِى السِجْنِ مِن سِقَايَةِ رَبَّهُ الخَمْرَ، تَعْرِفُ البَعْضَ مِن إحَاطَةِ اللهِ بأعْمَالِ العِبَادِ عِلْمًا، مَاضِيهَا، وَحَاضِرُهَا، وَمُسْتَقْبَلُهَا.
5/5/30 ـ عِلْمُ عَبْدُ اللهِ الصَالِحُ بِأعْمَالِ بَعْضِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ:
يَقُولُ تَعَالَى عَن مُوسَى وَفَتَاهُ:
“فَوَجَدَا عَبْدًۭا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَـٰهُ رَحْمَةًۭ مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًۭا ﴿٦٥﴾” الكهف.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى نَاقِلاً تَبْريرَ العَبْدِ الصَالِحِ لِمَا فَعَلَهُ مِن قَتْلِهِ لِلغُلاَمِ، وَإقَامَتِهِ لِلجِدَار:
“وَأَمَّا ٱلْغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـٰنًۭا وَكُفْرًۭا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًۭا مِّنْهُ زَكَوٰةًۭ وَأَقْرَبَ رُحْمًۭا ﴿٨١﴾ وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌۭ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحًۭا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًۭا ﴿٨٢﴾” الكهف.
وَلنُرَكِّزَ عَلَى الأتِى:
“فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًۭا مِّنْهُ زَكَوٰةًۭ وَأَقْرَبَ رُحْمًۭا“، ” وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى“.
وَالسُؤَالُ لِلشَحْرُورِ وَأمْثَالِهِ هُوَ:
هَلْ كَانَ العَبْدُ الصَالِحُ عَلَى يَقِينٍ مِن أنَّ الغُلاَمَ سَيَظَلُّ عَلَى طُغْيَانِهِ وَكُفْرِهِ أمْ لاَ؟ وَلاَ يَسَعُهُم إلاَّ الإجَابَةَ بِالإِيجَابِ!!!
وَإنَّمَا كَانَ عَدَمُ التَيَقُّنِ مُنْصَبٌّ عَلَى مَسْألَةِ إرْهَاقِ الغُلاَمِ لأبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.
فَنَقُولُ لِلمُفْتَئِتِ عَلَى اللهِ:
ألاَ تَرَى أنَّ العِلْمَ بِاسْتِمْرَارِ الغُلاَمِ عَلَى طُغْيَانِهِ وَكُفْرِهِ مُسْتَقْبَلاً هُوَ مِن العِلْمِ بِأَعْمَالِ العِبَادِ مُسْتَقْبَلاً؟!
وَالسُؤَالُ الثَانِى لِلشَحْرُورِ وَأمْثَالِهِ هُوَ:
هَل اسْتَخْرَجَ الغُلاَمَان كَنْزَهُمَا مِن الجِدَارِ مُسْتَقْبَلاً أم لاَ؟ فَإِذَا كَانَا قَدْ اسْتَخْرَجَاهُ فَهَل كَانَ العَبْدُ الصَالِحُ وَمُوسَى يَعْلَمَان بِمَا سَيَقَعُ مِنَ الغُلاَمَينِ فِى المُسْتَقْبَلِ فِى هَذِهِ الجُزْئِيَّةِ أم لاَ (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا)؟!!
إنَّ شَحْرُورَ وَأَشْبَاهَهُ مِمَّن يَدَّعُونَ أنَّ القُرْءَانَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُم لاَ يَسَعَهُم إلاَّ الإِذْعَانَ لِهَذِهِ الأَيَاتِ، الدَالَّةِ عَلَى:
1 ـ أنَّ بَعْضَ المَخْلُوقِينَ عَلِمُوا بِبَعْضِ مَا سَيَحْدُثُ مِن غَيْرِهِم مِن المَخْلُوقِين مُسْتَقْبَلاً، وَمَا كَانَ لَهُم أنْ يَعْلَمُوا بِشَيْءٍ مِمَّا عَلِمُوهُ لَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أخْبَرَهُم بِهِ.
2 ـ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أخْبَرَهُم بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ المَخْلُوقِيِنَ عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيِدِ.
فَكَيْفَ أخْبَرَهُم اللهُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ المَخْلُوقِيِنَ عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيِدِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيِدِ؟!!
3 ـ وَالدَالَّةُ أيضًا عَلَى عَدَمِ رُسُوخِ أقْدَامِ هَؤُلاَءِ فِى العِلْمِ، وَإِنَّمَا هُم مِن أدعِيَائِهِ، وَيَالَيتَهُم يُعطُوا لأَنْفُسِهِم فُسْحَةً مِن الوَقْتِ لِيَتَعَلَّمُوا فِيهَا بَدَلاً مِن الإثْقَالِ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى الأَقَلِّ لِيَقُومُوا بِتَصْحِيحِ مَا خَطَتْهُ أيمَانُهُم وَأَضَلُّوا بِهِ النَّاسَ، وَحَادُّوا اللهَ بِهِ.
وَأَكْتَفِى بِمَا أورَدْتُهُ لِمَا فِيهِ مِن التَوْضِيحٍ لِمَن أرَادَ العِلْمَ، أوْ التَوْبَةَ، وَعَزَائِى أنَّ المُؤْمِنَ عَلَى عِلاَقَةٍ جَيِّدَةٍ بِكِتَابِ رَبِّهِ، وَمِن ثَمَّ فَسَيَصِلُ إلَى بَقِيِّةِ الأَيَاتِ بِنَفْسِهِ.
أيْضًا فَسَيَفْهَمُ المُؤْمِنُ الكَثِيرَ مِنَ الأَيَاتِ الَّتِى قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَفْهَمُ مِنْهَا أنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَحْدُثُ مِنَ العِبَادِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولَيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ:
“ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًۭا لَّيِّنًۭا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ﴿٤٤﴾” طه.
فَالَّذِى لَمْ يَدْرُسُ الكِتَابَ وَيَعْلَمُ مَا سُقْنَا بَعْضًا مِنْهُ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ سَيَظُنُّ أنَّ اللهَ يَجْهَلُ مَا سَيَكُونُ مِنْ أمْرِ فِرْعَوْنَ. أمَّا مَنْ دَرَسَ الكِتَابَ وَيَعْلَمُ مَا سُقْنَا بَعْضًا مِنْهُ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ فَسَيَفْهَمُ أنَّ اللهَ يَقُومُ بِتَعْلِيِمِ رُسُلِهِ، والمُؤْمِنِينَ كَيْفَ تَكُونُ الدَعْوَةَ لِلطُغَاةِ مَهْمَا كَانَ إجْرَامُهُم، وَإلاَّ فَإِنَّ اللهَ قَدْ قَالَ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقْتَ أنْ كَانَ مُوسَى وَلِيدًا:
“..يَأْخُذْهُ عَدُوٌّۭ لِّى وَعَدُوٌّۭ لَّهُۥ ۚ…﴿٣٩﴾” طه.
وَعَلَى نَفْسِ الوَتِيْرَةِ تُفْهَمُ الأيَاتُ.
بَقِىَ أن نُنَاقِشَ شُبُهَاتِ القَوْمِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ