شَحْرُور: أَخْطَآءٌ فَادِحَةٌ فِى ٱلرِّبَوٰا۟: مِنْ 1 – 4

 

ٱلرِّبَوٰا۟: قَبَّحَهُ اللهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلمُحْتَاجِيِنَ 1

ٱلرِّبَوٰا۟/ يَرْبُوا۟/ يُرْبِى

الرِّبا مِنَ الرَّبْوِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ، وَالنَّمَآءُ، وَاصْطِلاَحًا فَهُوَ أنْ يُعْطِىَ طَرَفٌ طَرَفًا ءَاخَرَ قَدْرًا مِنَ المَالِ عَلَى سَبِيِلِ القَرْضِ، إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، عَلَى أَنْ يَرْبُوَا عِنْدَهُ وَيَزِيِدَ، بِنِسْبَةٍ مُحَدَّدَةٍ سَلَفًا، طِبْقًا لِشُرُوطِ الاقْتِرَاضِ بَيْنَهُمَا. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى رَأسِ المَالِ هِىَ الرِّبَا (اصْطِلاَحًا) فِى كِتَابِ اللهِ.

هَذَا الرِّبَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفَصَّلَ فِى بَيَانِهِ، فَتَنَاوَلَ فِى الأَيَاتِ 275 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، و39 مِنْ سُوُرَةِ الرُّوُمِ مَا نُسَمِّيِهِ فِى أَيَامِنَا بِالقَرْضِ التُّجَارِىِّ، وَتَنَاوَلَ فِى الأَيَةِ 276، و280 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ مَا نُسَمِّيِهِ فِى أَيَامِنَا بِقَرْضِ الاحْتِيَاجَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، وَحَذَّرَ سُبْحَانَهُ المُؤْمِنِيِنَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، مُذَكِّرًا إِيَّاهُم بِاليَوْمِ الأَخِرِ، وَتَوَعَّدَ فَاعِلِيِه بِأَشَدِّ العَذَابِ، وَالخَسَارِ، وَالخُلُودِ فِى دَارِ البَوَارِ، مُبَيِّنًا تَفَشِّيِهِ فِى اليَهُودِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ،..الخ. كَمَا وَعَدَ مَنْ يَنْتَهِى عَنْهُ وَيُزَكِّى مَالَهُ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ بِالفَلاَحِ، والرِّبَا عِنْدَهُ تَعَالَى والنَّجَاحِ.

وَبِرَغْمِ كُلِّ ذَلِكَ الوُضُوحِ، وَالوَعِيِدِ، فَقَدْ أَفْتَى البَعْضُ كَشَحْرُورٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الرِّبَا مِنْهُ مَا هُوَ حَلاَلٌ، كَالقُرُوضِ التُّجَارِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَإِقْرَاضِ الفُقَرَآءِ. وَسَرَى كَلاَمُهُ سَرَيَانَ السُّمِّ فِى عُرُوقِ مَنْ تَشَحْرَرُوا، وَمَنْ تَعَصْرَنُوا، وَتَرَكَ الكُلُّ نُصُوصَ الكِتَابِ نَهْبًا لِقِصَرِ النَّظَرِ، وَسِقَمِ الفِكْرِ

. وَالحَقُّ أَنَّ الرِّبَا هُوَ الرِّبَا، اقْتَرَضَهُ فَقِيِرٌ أَوْ مُسْتَطِيِعٌ، وأَقْرَضَهُ شَخْصٌ أَوْ هَيْئَةٌ، لِلاحْتِيَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ لِلبُيُوعِ، فَالعِبْرَةُ بِالنُّصُوُصِ.

هَذَا وَقَدْ جَآءَت كَلِمَةُ الرِّبَا (اصْطِلاَحًا) فِى كِتَابِ اللهِ بِمُشْتَقَّاتِهَا إِحْدَى عَشَرَةَ مَرَّةً (1):

● ثَلاَثَةٌ مِنْهُم بِالأَيَةِ 275 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ:

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ ﴿٢٧٥﴾“.

● وَمَرَّتَان بِالأَيَةِ 276 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ:

يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿٢٧٦﴾“.

● وَمَرَّةٌ بِالأَيَةِ 278 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَذَرُوا۟ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓا۟ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٢٧٨﴾“.

● وَمَرَّةٌ بِالأَيَةِ 130 مِنْ سُورَةِ ءَال عِمْرَان:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأْكُلُوا۟ ٱلرِّبَوٰٓا۟ أَضْعَـٰفًۭا مُّضَـٰعَفَةًۭ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٣٠﴾“.

● وَمَرَّةٌ بِالأَيَةِ 161 مِنْ سُورَةِ النِّسَآء:

وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَقَدْ نُهُوا۟ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَ‌ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًۭا ﴿١٦١﴾“.

● وَثَلاَثَةٌ مَرَّاتٍ بِالأَيَةِ 39 مِنْ سُورَةِ الرُّوم:

وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًۭا لِّيَرْبُوَا۟ فِىٓ أَمْوَ‌ٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرْبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوٰةٍۢ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ ﴿٣٩﴾“.

وَمِنْ هَذِهِ الأَيَاتِ نَسْتَخْلِصُ الأَتِى:

تَعْرِيِفُ الرِّبَا:

الرِّبَا هُوَ كُلُّ مَالٍ يُقْرَضُ بِزِيَادَةٍ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ اسْتِخْدَامِ المُقْتَرِضِ لَهُ، اسْتِهْلاَكِىٌّ كَانَ أَوْ تُجَارِىٌّ، لِغَنِىٍّ كَانَ أَوْ لِفَقِيِرٍ،وَقَدْ شَمَلَت الأَيَاتُ النَّوْعَيْنِ مِنَ المُقْتَرضِيِنَ، وَالحَالَتَيْنِ مِنْ الاقْتِرَاضِ.

1 ـ القُرُوضُ الرَّبَوِيَّةُ التُّجَارِيَّةُ:

وَسُمِّيَت هَذِهِ القُرُوضُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِدُخُولِهَا فِى العَمَلِيَّاتِ التُّجَارِيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا النَوْعِ مِنَ القُرُوضِ الرِّبَوِيَّةِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًۭا لِّيَرْبُوَا۟ فِىٓ أَمْوَ‌ٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرْبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِ ۖ﴿٣٩﴾الرُّوم.

1 ـ فَقَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ: “فِىٓ أَمْوَ‌ٰلِ ٱلنَّاسِ“، يُبَيِّنُ أَنَّ المَالَ المُقْتَرَضَ قَدْ صَبَّ فِى أَمْوَالِ مَنْ مَعَهُم أَمْوَالٌ أَصْلاً (أَمْوَ‌ٰلِ ٱلنَّاسِ)، يَقُومُونَ بِتَشْغِيِلِهَا وَإِنْمَائِهَا، حَيْثُ التَقَت الإِرَادَتَان؛ إِرَادَةُ أَصْحَابِ الأَمْوَالِ فِى تَوسِيِعِ أَعْمَالِهِم، وَإِرَادَةُ المُرَابِىِّ أَنْ يَدَفْعَ أَمْوَالَهُ لِتَدْخُلَ مَعَ أَمْوَالِ هَؤُلآءِ النَّاسِ فَتَزِيِدُ مِنْ غَيْرِ مُخَاطَرَةٍ وَلاَ شَرَاكَةٍ، فَقَالَ تَعَالَى لَهُم: لاَ يَرْبُوا عِنْدِى رِبَاكُم.

2 ـ وَعِنْدَمَا أَرَادَ المُرَابُونَ فَلْسَفَةَ رِبَاهِم قَالُوا: “إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ“، مُحَاوَلَةً مِنْهُم لإِلبَاسِ بَاطِلِهِم وَفِسْقِهِم لِبَاسَ التَّقْوَىَ، وَالوَرَعِ، بِحُجَّةِ أَنَّ أَمْوَالَهُم تُسْتَأجَرُ لِتَوْسِعَةِ المَشْرُوعَاتِ التُّجَارِيَّةِ كَالبُيُوعِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُم:

وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ“.

ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِى ءَايَةِ الرُّومِ السَّابِقَةِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الرِّبَا بِدَفْعِ القَرْضِ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ.

هَذَا الفِعْلُ هُوَ فِى حَقِيِقَةِ الأَمْرِ لاَ يُخَالِفُ بِمَفْهُومِنَا الحَالِىِّ “غَسِيِلُ الأَمْوَالِ، وَتَبْيِضِيِهَا”، لِتَصْوِيِرِ هَذَا الرِّبَا القَبِيِحِ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ نَوْعٍ مِنَ البُيُوعِ. فَقَطَعَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم الطَّرِيِقَ وَقَالَ:

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ“.

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ كَلاَمَهُ فِى الأَيَةِ مُهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا فَقَالَ:

وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ“.

فَجَآءَ المُغَفَّلُ شَحْرُور وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصِيِبٌ مِنْ إِقْعَادِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيِمِ، وَقَالَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الرِّبَا التُّجَارِىَّ لاَ بَأسَ بِهِ شَرِيِطَةُ أَلاَّ تَتَعَدَّى فَائِدَتُهُ الضِّعْفَ، تَفْسِيِرًا مَمْجُوجًا لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأْكُلُوا۟ ٱلرِّبَوٰٓا۟ أَضْعَـٰفًۭا مُّضَـٰعَفَةًۭ ۖ“.

فَقَالَ:

أي أن الله وضع سقفا للفائدة من أجل الناس الذين لا يستحقون الصدقات وليسوا بحاجة إليها، وهؤلاء يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع وهم الصناعيون والحرفيون والمزارعون والتجار… وهكذا دواليك. هذه الفائدة هي ضعف مبلغ الدين ولا يمكن أن تزيد عن ذلك(2)!!!

ضارِبًا بِنُصُوصِ الأَيَاتِ عُرْضَ الحَائِطِ، وَدُونَ أَدْنَى تَدَبُّرٍ لَهَا، وَلاَ تَرْتِيِلٍ لِدِرَاسَتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ الخَوْضُ فِى ءِايَاتٍ بَيْنَ يَدَىِّ عَذَابٍ شَدِيِدٍ، بِاسْتِهْتَارٍ يَفُوقُ الوَصْفَ .

إِذًا؛ فَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى عَنِ الرِّبَا بِأَنَّهُ يَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ قَطَعَ الطَرِيِقَ عَلَى المُمَاحَكَةِ وَالمُمُاحَلَةِ، حَتَّى يَنْتَهِى مَنْ يَخْشَاهُ عَنْ الخَوْضِ فِيِهِ، وَيَعْلَمُ:

1 ـ أَنَّ الكَلاَمَ فِى الأَيَةِ هُوَ عَنْ الرِّبَا التُّجَارِىِّ، الَّذِى يُعْطَى لِمَنْ لَدَيْهِ أَمْوَالٌ يُرِيِدُ زِيَادَتِهَا عَنْ طَرِيِقِ الاقْتِرَاضِ لِتَوْسِعَةِ أَعْمَالِهِ.

2 ـ أَنَّ المَالَ المُقْرَضُ لِلنَّاسِ بِزِيَادَةٍ هُوَ رِبًا لاَ يِرْبُوَا عِنْدَهُ تَعَالَى؛ بَلْ يَمْحَقُهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: “يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا۟“، وَيُورِدُ صَاحِبَهُ أَسْوَأَ العِقَابِ، وَأَشَدَّ العَذَابِ.

أَمَّا القَوْلُ بِأَنَّ الرِّبَا لاَ يَكُونُ رِبًا إِلاَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى حَدِّ المُضَاعَفَةِ فَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ فِى الهَوَى، وَتَجَاهُلٌ لَلأَيَاتِ، وَاقْتِطَاعٌ لِلكَلاَمِ عَنْ سِيَاقِهِ، وَلَعِبٌ بِالنَّارِ، وَسَيَأتِى التَّعْقِيِبُ عَلَيْهِ لاَحِقًا.

2 ـ القُرُوضُ الرَّبَوِيَّةُ الاسْتِهْلاَكِيَّةُ:

وَسُمِّيَت هَذِهِ القُرُوضُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِدُخُولِهَا فِى اسْتِهْلاَكِ المُحْتَاجِيِنَ، وَالمَعْوُوزِيِنَ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا النَوْعِ مِنَ القُرُوضِ الرِّبَوِيَّةِ الاسْتِهْلاَكِيَّةِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ:

يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿٢٧٦﴾“.

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍۢ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍۢ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا۟ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢٨٠﴾“.

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِإِقْرَانِهِ بَيْنَ الرِّبَا وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ (كَبَدِيِلٍ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ) أَنَّ القَرْضَ هُنَا مَنَاطُهُ هُوَ إِقْرَاضُ المُحْتَاجِيِنَ مِنَ المَسَاكِيِنِ وَالفُقَرَآءِ، وَالغَارِمِيِنَ الخ، كَمَا بَيَّنَ مِنَ الإِمْهَالِ انْتِفَآءُ القُدْرَةِ عَلَى السَّدَادِ.

وَبِذَلِكَ تَكُونُ الأَيَاتُ قَدْ شَمَلَت كُلَّ أَنْوَاعِ القُرُوضِ، وَلَيْسَ الخَاصُّ بِالفُقَرَآءِ دُونَ غَيْرِهِم. وَيَكُونُ الرِّبَا هُوَ فِعْلٌ قَبِيِحٌ، مُسْتَهْجَنٌ، فِى جَمِيِعِ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِىٌّ مُتَّسِقٌ مَعَ المَنْطِقِ السَّلِيِمِ .

تَعْرِيِفُ البَيْعِ:

نَأتِى الأَنَ إِلَى البُيُوعِ، لِنَعْرِفَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

…ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ﴿٢٧٥﴾“.

فَبِدَايَةً أَقُولُ أَنَّهُ لَوْ رَاحَ شَحْرُورٌ يَكْتُبُ لأَلْفِ سَنَةٍ هُوَ أَوْ أَىَّ أَحَدٍ مِمَّن هُمْ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَلَنْ يَصِلَ لِمَعْنَى البَيْعِ فِى قَوْلِهِ تَعَاَلَى: “ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟“. فَمِثْلِ هَذَا لاَ يَتَأَتَّى بِالطَّرِيِقَةِ العَشْوَائِيَّةِ الَّتِى يُمَارِسُهَا، وَلاَ بِالجَرَأَةِ عَلَى كَلاَمِ اللهِ بِجَهْلٍ وَتَعَالُمٍ، وَإِنَّمَا مَا سَنَقُولُهُ هُنَا هُوَ مِنَ الَّطَائِفِ الَّتِى تَحْتَاجُ إِلَى مَنْهَجٍ لِلدِّرَاسَةِ مُنْبَثِقٌ مِنْ ءَايَاتِ الكِتَابِ، وَمُنْضَبِطٌ بِكَلاَمِ اللهِ فِى كِتَابِهِ، وَلِعَلَّهُ أَنْ يَفْهَمَ سُوءَ حَالِهِ فَيُصْلِحُ مِنْهُ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الفَوْرِ عَنْ الكَلاَمِ فِى دَيِنِ اللهِ بِجَهْلٍ حَتَّى يَتَعَلَّم، وَيَعُودَ بِحَالٍ أَفْضَلٍ خَالٍ مِنَ التَّعَالُمِ، وَالجَرَآءَةِ عَلَى كَلاَمِ اللهِ تَقَدَّسَ وَتَبَارَكَ.

يَقُولُ تَعَالَى:

رِجَالٌۭ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌۭ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ…﴿٣٧﴾النُّور.

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ البَيْعَ غَيْرُ التِّجَارَةِ.

فَباعْتِبَارِ الأَمْوَالِ سِلْعَةٌ حُرَّةٌ، تَكُونُ التِّجَارَةُ هِىَ تَبَادُلٌ سِلَعِىٌّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، بِعِوَضٍ (مُقَابِلٍ)، يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الشَّارِى (البَائِعُ بِالعَامِّيَّةِ) عَرَضًا مَعْرُوضًا لِلشَّرْوِ (لِلبَيْعِ بِالعَامِّيَّةِ)، وَيَمْلُكُ الأَخَرُ المُشْتَرِى مَالاً لإِتْمَامِ عَمَلِيَّةِ الشِّرَآءِ.

وَمَا لَصَقَ فِى أَذْهَانِ النَّاسِ مْنْ أَنَّ البَيْعَ هُوَ عَكْسُ الشِّرَآءِ هُوَ أَمْرٌ عَامِّىٌّ، بَعِيِدٌ مِنْ القُرْءَانِ بِمَكَانٍ. فَمَا نُسَمِّيِهِ بِالبِيْعِ فِى مُجْتَمَعَاتِنَا يُسَمِّيِهِ اللهُ بِالشَرْوِ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍۭ بَخْسٍۢ دَرَ‌ٰهِمَ مَعْدُودَةٍۢ وَكَانُوا۟ فِيهِ مِنَ ٱلزَّ‌ٰهِدِينَ﴿٢٠﴾يُوسُف.

فَالحَرَكَةُ التُّجَارِيَّةُ التَّبَادُلِيَّةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ هِىَ بَيْنَ شَارٍ وَمُشْتَرٍ. فَالشَّارِى هُوَ مَا نُسَمِّيِهِ نَحْنُ بِالبَائِعِ، وَالمُشْتَرِى هُوَ هُوَ المُشْتَرِى، وَالعَمَلِيَّةُ هِىَ عَمَلِيَّةُ شِرَآءٍ.

وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ…“.

فَإِذَا مَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَمَا هُوَ البَيْعُ إِذًا؟!

والحَقِيِقَةُ أَنَّ البَيْعَ هُوَ الشِّقُ الثَّانِى مِنَ التَّبَادُلِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالأَوَّلُ سِلَعِىٌّ، قَائِمٌ عَلَى التَّمَلُّكِ، وَهَذَا خَدَمِىٌّ لَيْسَ فِيِهِ تَمَلُّكٌ وَإِنْ كَانَ فِيِهِ انْتِفَاعٌ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ اسْتِئْجَارُ عَرَضٍ بِعِوَضٍ، اسْتِئْجَارًا مَوْقُوتًا بِوَقْتٍ، وَيَدْخُلُ فِيِهِ إِيِجَارُ الأَعْرَاضِ والمَنْقُولاَتِ، وَهُوَ ـ كَمَا نَرَى ـ غَيْرُ التِّجَارَةِ. فَالتِّجَارَةُ هِىَ انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ العَرَضٍ المَادِّىِّ، بِثَمَنٍ، وَغَيْرُ مَوْقُوتٍ بِوَقْتٍ. وَهَذِهِ الأَخِيِرَةُ هِىَ الَّتِى تَسْتَثْمَرُ فِيِهَا الأَمْوَالُ، وَتَشْمَلُ الصِّنَاعَةَ، وَتَبَادُلَ السِّلَعِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَضَخَامَتِهَا.

وَبِالتَّالِى؛ فَعِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:

رِجَالٌۭ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌۭ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ﴿٣٧﴾النُّور.

فَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الضَرْبَيْنِ (التِّجَارَةَ، وَالبَيْعَ) لِيُبَيِّنَ أَنَّ المُتَّقِيِنَ لاَيُلْهِهِم لاَ رِبْحٌ مِنْ تِجَارَةٍ، وَلاَ عَائِدٌ مِنْ بَيْعٍ (إِيِجَارٍ) عَنْ ذِكْرِ اللهِ.

حَسَنًا؛ فَمَا مَعْنَى البَيْعِ فِى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ ﴿٢٧٥﴾البَقَرَةِ؟!

قُلْنَا أَنَّ البَيْعَ هُوَ تَبَادُلُ المَنَافِعِ خَارِجَ التِّجَارَةِ، وَهُوَ إِيِجَارٌ لِوَقْتٍ. وَبِالتَّالِى فَقَدْ قَالَ المُرَابُونَ: رِبَانَا (التُّجَارِىَّ) لاَ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَالبَيْعِ:

فَنَحْنُ نُؤَجِّرُ مَالَنَا لَلمُقْتَرِضِ، وَالرِّبَا (الفَائِدَةُ) إِنَّمَا يَكُونُ مُقَابِلَ وَقْتِ تَأجِيِرِ الأَمْوَالِ، فَيُعِيدُ المُقْتَرِضُ لَنَا المَالَ مُضَافٌ عَلَيْهِ قِيِمَةُ الإِيِجَار (البَيْع).

وَمِنْ هُنَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُم: لَيْسَ هَذَا كَذَاكَ: “وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟“.

تَطْبِيِقَاتُ البَيْعِ:

1 ـ يَقُولُ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ البَيْعُ هُوَ تَبَادُل المَنْفَعَةِ (الخَدَمِيَّةِ) فَلِمَاذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَنفِقُوا۟ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌۭ لَّا بَيْعٌۭ فِيهِوَلَا خُلَّةٌۭ وَلَا شَفَـٰعَةٌۭ ۗ وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ“.

وَالجُوابُ:

أ ـ أَنَّ المُقَابَلَةَ فِى الأَيَةِ جَآءَت بَيْنَ الإِنْفَاقِ فِى سَبِيِلِ اللهِ، وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ البَيْعِ، والخُلَّةِ، وَالشَّفَاعَةِ. وَهَذَا هَامٌّ فِى فَهْمِ الأَيَةِ.

ب ـ أَنَّ الأَيَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَنْفَعُ فِيِهِ إِلاَّ عَمَلُ الشَّخْصِ، إِذْ ظَنَّ البَعْضُ أَنَّهُ فِى حَالِ تَقْصِيِرِهِم فِى جَنْبِ اللهِ تَعَالَى فَسَيَنْفَعُهُم عَمَلُ فَرْدٍ يَجْبُرُ بِهِ فَقْرَهُم فِى الصَّالِحَاتِ، وَلاَ يَخْرُجُ السُّلُوكُ الفَرْدِىُّ عَنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ حَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى فِىالأَيَةِ، وَهِىَ: البَيْعُ، أَوْ الخُلَّةُ، أَوْ الشَفَاعَةُ، وَهُوَ مَنْطِقِىٌّ جِدًا:

1 ـ فَالبَيْعُ هُوَ أَنْ يَتَدَخَّلَ الشَخْصُ مُتَوَسِّطًا بِدَافِعٍ مَادِّىٍّ، لِسَبْقِ اتِّفَاقٍ عَادَ عَلَيْهِ بِالمَنْفَعَةِ سَلَفًا، أَوْ كَمَا نَقُولُ قَدْ قَبَضَ مُقَابِلَهُ مُقَدَّمًا!!

2 ـ وَالخُلَّةُ هِىَ أَنْ يَتَدَخَّلَ الشَخْصُ مُتَوَسِّطًا بِدَافِعٍ مِنْ صِدْقِ وَدِفْءِ المَشَاعِرِ؛ لِوُجُودِ عِلاَقَةٍ حَمِيِمِيَّةٍ تَرْبُطُهُ بِمَنْ يَتَدَخَّلُ مِنْ أَجْلِهِ!!

3 ـ وَالشَّفَاعَةُ هِىَ أَنْ يَتَدَخَّلَ الشَخْصُ مُتَوَسِّطًا بِدَافِعِ الرِّئَاسَةِ وَالقِيَادَةِ، لِأَنَّهُ الأَحَقُّ بِالتَّدَخُّلِ لِوَجَاهَةٍ لَهُ عِنْدَ مَنْ يَتَدَخَّلُ عِنْدَهُ!!

فَالبَيْعُ هُنَاابْتَدَأَ فِى الدُّنْيَا بَيْنَ طَرَفٍ دَجَّالٍ كَذَّابٍ زَعَمَ أَنَّ مَا يُسَوِّقَهُ وَيُرَوِّجُ لَهُ هُوَ الحَقُّ، وَأَنَّهُ سَيَحْمِلُ عَنِ أَتْبَاعِهِ أَوْزَارَهُم وَخَطَايَاهُم، فَاتَّبَعَهُ مَنْ اتَّبَعَهُ ظَنَّا مِنْهُم أَنْ يُوَفِّىَ بِبَيْعِهِ الَّذِى بَايَعَهُ فِى الدُّنْيَا، فَقَالَ اللهُ لِعِبَادِهِ فِى الدُّنْيَا مُحَذِّرًا إِيَّاهُم أَنَّهُ لاَ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ فِى الأَخِرَةِ، فَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأَتِىَ هَذَا اليَوْمُ.

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبِعُوا۟ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُم مِّن شَىْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ﴿١٢﴾العَنْكَبُوت.

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلْأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَ‌ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۗ..﴿٣٤﴾التَّوْبَة.

● ● ●

2 ـ يَقُولُ القَائِلٌ: إِذَا كَانَ البَيْعُ هُوَ تَبَادُل المَنْفَعَةِ (الخَدَمِيَّةِ) فَلِمَاذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:

إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَ‌ٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّۭا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُوا۟ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَ‌ٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴿١١١﴾التَّوْبَة.

أَلَيْسَ هُنَا بَيْعٌ وَشِرَآءٌ؟!

وَالحَقِيِقَةُ أَنَّ فَهْمَ الأَيَةِ لاَ يَحْدُثُ إِلاَّ بِالنَّظَرِ إِلَى بَقِيَّةِ الأَيَاتِ. فَالشِّرَآءُ ـ كَعَمَلِيَّةٍ تُجَارِيَّةٍ ـ سَبَقَ وَأَنْ وَضَّحْنَا بِالأَيَاتِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ شَارِىٍ (وَهُوَ مَنْ نُسَمِّيِهِ بِعَامِّيَّتِنَا بَائِع)، وَمُشْتَرِىٍ، وَهُوَ مَا جَآءَت بِهِ الأَيَاتُ فِعْلاً، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ…﴿٢٠٧﴾البَقَرَة.

أَىّ أَنَّهُ هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ فِى سَبِيِلِ اللهِ عَلَى سَبِيِلِ الشِّرَآءِ، طَامِعًا فِى ثَمَنِهَا الَّذِى أَخْبَرَهُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ الجَنَّةَ. فَكَانَ فِعْلَهُ هُوَ الشَّرْوُ لِنَفْسِهِ. كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:

لْيُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلْءَاخِرَةِ ۚ..﴿٧٤﴾النِّسَآء.

وَيَشْرَوْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا أَىْ اشْتَرَوا الأَخِرَةَ مُقَابِلَ شَرْوِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بِعَامِّيَتِنَا: “لِيُقَاتِلْ فِى سَبِيِلِ اللهِ الَّذِيِنَ يَبِيِعُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالأَخِرَةِ.

نَأَتِى لَلأَيَةِ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ أَعْلاَهُ؛ فَنَجِدُ أَنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِيِنَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَ‌الَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، مُبَشِّرًا إِيَّاهُم بِبَيْعِهِمُ الَّذِى بَايَعُوا بِهِ. فَهُم قَدْ بَايَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى عَمَلٍ فِى سَبِيِلِ اللهِ، وَعَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وَيَنْتَظِرُونَ الظُّرُوفَ الَّتِى تُمَكِّنَهُم مِنَ الوَفَآءِ بِعَهْدِهِم، وَتَصْدِيِقِ بَيْعَتِهِم مَعَ اللهِ، وَاللهُ يُبَشِّرُ مَنْ سَيَصْدُقُ مِنْهُم.

فَلاَ بَيْعٌ فِى الأَيَةِ، وَإِنَّمَا مُبَايَعَةٌ.

● ● ●

3 ـ يَقُولُ القَائِلٌ: حَسَنًا؛ فَمَا مَعْنَى البَيْعَ هُنَا:

وَلَا تَسْـَٔمُوٓا۟ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦ ۚ ذَ‌ٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدْنَىٰٓ أَلَّا تَرْتَابُوٓا۟ ۖ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةًۭ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوٓا۟ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ..﴿٢٨٢﴾البَقَرَة.

وَالحَقِيِقَةُ أَنَّ الأَيَةَ هُنَا تُثْبِتُ مَا قُلْنَاهُ؛ إِذْ أَنَّهَا ذَكَرَت البَيْعَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَت التِّجَارَةَ، وَنَصَّت عَلَى الإِشْهَادِ عَلَى البَيْعِ، حَتَّى لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مَجَالاً لِلاخْتِلاَفِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ اليَوْمَ مِنْ كِتَابَةِ عُقُودٍ لِتَأجِيِرِ المَنْقُولاَتِ، وَالسَّيَّارَاتِ، وَعُقُودُ العَمَلِ، وَمُقَاوَلاَتُ الأَعْمَالِ، وَغَيْرِهَا مِنَ البُيُوعِ.

● ● ●

4 ـ يَقُولُ القَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى التِّجَارَةَ مَعَ اللهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَشْتَرِى مِنَ المُؤْمِنِيِنَ أَمْوَالَهُم وَأَنْفُسَهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ، وَهُمْ يُبَايِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؟!

وَالجَوَابُ أَنَّ الشِّرآءَ فِى الأَيَاتِ هُوَ شِرَآءٌ مُخْتَلِفٌ عَنْ شِرَآءِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِهِمُ البَعْضِ، فَالمُؤْمِنُونَ بَاعُوَا حَيَاتَهُم، وَوَقْتَهُم، وَسُلُوكَهُم، وَتَوَجُّهَهُم، وَكُلُّهَا عُرُوضٌ غَيْرُ تُجَارِيَّةٍ أَصْلاً، كَذَلِكَ فَقَدْ سَمَّى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ العَمَلِيَّةَ بِالتِّجَارَةِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ عَرَضٍ مَنْقُولٍ يُمَلَّكُ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِى نَعْرِفُهَا؛ كَقَوْلِهَ سُبْحَانَهُ:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ﴿١٠﴾تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَ‌ٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَ‌ٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴿١١﴾الصَّفّ.

فَاللهُ تَعَالَى سَمَّى تَقَبُّلَهُ لأَعْمَالِ المُؤْمِنِيِنَ مِنْ إِيِمَانٍ وَجِهَادٍ فِى سَبِيِلِهِ بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم بِالشِّرَآءِ، فَقَالَ: “ٱشْتَرَىٰ“، وَهَذَا مِنْ كَرَمِ اللهِ تَعَالَى مَعَ المُؤْمِنِيِنَ، إِذْ عَامَلَهُم بِالإِحْسَانِ، فَاعْتَبَرَ تَعَالَى البَيْعَ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ كَأَنَّهُ تِجَارَةً، وَكَأنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا يُقَدِّمُونَهُ أَصْلاً مِنْ نَّفْسٍ، وَمَالٍ. (3). وَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:

مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا فَيُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضْعَافًۭا كَثِيرَةًۭ ۚ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُۜطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿٢٤٥﴾البَقَرَة.

فَاللهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ يَسَأَلُ المُؤْمِنِيِنَ أَنْ يُقْرِضُوهُ، قَرْضًا حَسَنًا، بِأَنْ يُقَدِّمُوا مَا مَلَّكَهُ اللهُ إِيَّاهُم، طَوْعًا؛ لِيُضَاعِفَهُ لَهُم أَضْعَافًا كَثِيِرَةً، وَاللهُ سُبْحَانَهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيِمِ.

هَامِشٌ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَيْضًا فَهُنَاكَ كَلِمَاتٌ أَصْلُهَا مِنَ الرَّبَا، كَالرَّبْوَةِ، فَهِىَ مَكَانٍ رَابٍ مِنَ الأَرْضِ، ٱرْتَفَعَ عَنْ بَقِيَّةِ مَاحَوْلَهُ. وَكَذَلِكَ الحَالُ فِى الزَّبَدِ الرَّابِى، فَهُوَ زَبَدٌ نَمَا حَتَّى صَارَ لاَ تُخْطِئُهُ العَيْنُ. وَفِى الرِّبَايَةِ، فَالَّذِى يُرَبِّى وَلِيِدًا يَنَمِّيِهِ مِنْ مَعَارِفِه وَعِلْمِهِ حَتَّى يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ فِى الأَرْضِ المَيْتَةِ إِذَا مَا أَصَابَهَا المَآءُ اهْتَزَّت وَرَبَت، وَحَدَثَ النُّمُوُّ فِيِمَا اخْتَزَنَتْهُ مِنْ بُذُورٍ. وَأَخِيِرًا فَالأَخْذَةُ الرَّابِيَةُ هِىَ أَخْذَةُ مُمَيَّزَةٌ تَكَاثَر فِيِهَا العَذَابُ الشَّدِيِدُ، فَجَآءَ عَلَى أنْوَاعٍ، وَقُوَّةٍ.

2 ـ انْظُر: الكِتاب والقُرآن لشحرور (ص: 469).

3 ـ فَالأَيَةُ صَوَّرَت اللهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ اشْتَرَى. وَالمُشْتَرِى فِى التِّجَارَةِ الَّتِى عَرِفْنَاهَا يَدْفَعُ لِيِتَمَلَّكَ مَا يَشْتَرِيِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا، فَاللهَ تَعَالَى هُوَ مَنْ يَمْلُكُ الدُّنْيَا وَمَافِيِهَا، وَلَكِنْ لأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ للإِنْسَانِ حُرِّيَّةَ الاخْتِيِارِ فِى الدُّنْيَا فَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ اخْتِيَارًا مُقَابِلَ الجَنَّةِ، فَمَلَّكَهُ اخْتِيَارَهُ، وَرَزَقَهُ النَّفْسَ وَالمَالَ، ثَمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِمَا مَلَّكَهُ اللهُ إِيَّاهُ بِهَذَا الاخْتِيَارِ فِى سَبِيِلِهِ مُقَابِلَ الجَنَّةَ.

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x