أوَّلاً: ضَرُورِيَّاتُ المَنْهَجِ: 1 ـ الإِدْرَاكُ

 

الإِدْرَاكُ هُوَ الوُصُولُ، واللِحَاقُ، وَمُتَعَلَّقُهُ الحَرَكَةُ؛ سَوَاءٌ كَانَت فِكْرِيَّةً أوْ جِسْمِيَّةً، أوْ تَجْمَعُ بَيْنَ كِلَيْهِمَا مَعًا. وَإِدْرَاكُ الشَيْءِ حُدُوثُهُ وَتَحْصِيِلُهُ، فِكْرًا أوْ جِسْمًا، بِحَسَبِ حَالِهِ. فَإِذَا مَا تَأَمَّلْنَا حَرَكَةَ الإِنْسَانِ الهَادِفَةَ، سَنَجِدُ أنَّهَا إِمَّا أنْ تَكُونَ حَرَكَةً فِكْرِيَّةً فَقَط، أوْ أنْ يَلِيِهَا حَرَكَةٌ مَادِّيَّةٌ لاَحِقَةٌ، تَتَكَامَلاَن مَعًا لِتُحَقِّقَان هَدَفًا مَا. فَإِنْ كَانَ المَطْلَبُ مَادِّيًّا فَهُوَ بِحَسَبِ العُضُوِ والهَدَفِ، وَيَكُونُ بِإدْرَاكِ الإنْسَانِ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ، كَإِدْرَاكِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى (1). أوْ أَنْ يَكُونَ بِإِدْرَاكِ حَالَةٍ لِمَوْجُودٍ، فَهُوَ لُحُوقٌ بِهِ، وَحُدُوثٌ، كَإِدْرَاكِ المَوْتِ صَاحِبَهُ (2)، أمَّا إِذَا مَا كَانَ المَطْلَبُ فِكْرِيًّا، فَهُوَ الوصُولُ إلَى فِكْرٍ مَا (قَنَاعَةٍ) فِى مَوْضُوعٍ مَا، فَيَكُونُ قَدْ أُدْرَكَ فِكْرًا.

وَبِمَا أَنَّنَا سَنَتَكَلَّمُ هُنَا عَنْ مَنْهَجِ دِرَاسَةِ القُرْءَانِ، فَنَحْنُ أَمَامَ عَمَلِيَّةِ إِدْرَاكٍ وَفَهْمٍ فِكْرِىٍّ مِنَ المَقَامِ السَّامِىِّ الرَّفِيِعِ، وَذَلِكَ لِمَا لِلمَدْرُوسِ مِنْ مَكَانَةٍ وَعُلُوٍّ، وَهُوَ كَلاَمُ العَلِىِّ القَدِيِرِ.

وَلَمَّا كَانَ الإِدْرَاكُ (الكَامِلُ) لَيْسَ بِبَسَاطَةِ أنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا لَدَى البَشَرِ عُمُومًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ، وَمُعَقَّدَةٌ، تَحْتَاجُ مِنْ صَاحِبِهَا إلَى مُثَابَرَةٍ، وَصَبْرٍ، وَجُهْدٍ قَلْبِىٍّ مُتَواصِلٍ؛ فَلاَ بُدَّ وَأَنْ يُرَاعَى فِى سَبِيِلِ ذَلِكَ الكَثِيِرُ مِنَ الأُمُورِ، حَتَّى يَسْلَمُ الإِدْرَاكُ وَيَصِحُّ!!

وَلِذَا فَإِنَّنِى أُنَبِّهُ هُنَا وَأُشَدِّدُ عَلَى أنَّ هَذِهِ السَلاَمَةَ والصِّحْةَ صَارَت مِنْ أَوَّلِ ضَرُورِيَّاتِ المَنْهَجِ.

فَإِذَا مَا أضَفْنَا إِلَى ذَلِكَ، أنَّ صِيَاغَةَ كَلاَمِ اللهِ، لَيْسَت كَصِيَاغَةِ كَلاَمِ البَشَرِ (3)، فَإِنَّ عَمَلِيَّةَ الإِدْرَاكِ صَارَت أكْثَرَ حَاجَةً إِلَى الالْتِزَامِ بِمَعَايِيِرِ المَوْضُوعِيَّةِ، والبَحْثِ، وَذَلِكَ بِتَفْعِيِلِ مُعْطَيَاتِ الخِلْقَةِ، بِإِرجَاعِهَا إلَى مَا يَتَوَافَقُ مَعَ الفِطْرَةِ (default) الَّتِى فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا.

أَيْضًا فَإِنَّ عَمَلِيَةُ الإِدْرَاكِ هُنَا فِى هَذَا المُوْضُوعِ (وَهُوَ دِرَاسَةُ القُرْءَانِ خُصُوصًا، وَكُتُبِ اللهِ عُمُومًا) تُمَثِّلُ الغَايَةَ القُصْوَى، وَمُنْتَهَى عَمَلِيَّةِ نَفْخِ الرُّوحِ فِى ءَادَمَ، مِنَ النَّاحِيَةِ الوَظِيِفِيَّةِ لِلخِلْقَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى (مَثَلاً):

لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ ﴿٤﴾التِّيِن.

إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍۢ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا ﴿٢﴾الإنْسَان.

“..وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَـٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿٩﴾السَّجْدَة.

فَالإِنْسَانُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيِهِ صَارَ فِى أَحْسَنِ تَقْويِمٍ، وَصَارَ سَمِيِعًا بَصِيِرًا، مُهَيَّئًا لِتَلَقِّى البَلاَغَ مِنَ اللهِ لَهُ، وَصَارَ قَادِرًا عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الخِطَابِ الرَّبَّانِىِّ الدَّقِيِقِ، المُحْكَمِ، المُفْعَمِ بِمَا يُغَذِّى مُسْتَقْبِلاَتِهِ. فَإِنْ فَعَلَ وَفَعَّل مُعْطَيَاتِهِ لِتَلَقِّى الخِطَابِ الرَّبَّانِىِّ فَقَدْ شَكَرَ، وَأَصْبَحَ مِنَ الشَّاكِرِيِنَ، أوْ أنْ يُعْرِضَ، فَيَكُونَ كَافِرًا بِنِعَمِ رَبِّهِ، مُشْرِكًا بِهِ غَيْرُهُ، فَيَكُونَ مِنَ الهَالِكِيِنَ.

إذًا فَنَحْنُ بِالتَّرْكِيِزِ عَلَى دِقَّةِ الإِدْرَاكِ، والتَّأَكُّدِ مِنْ صِحَّتِهِ، وَسَلاَمَتِهِ المِعْيَارِيَّةِ؛ أمَامَ أوَّل أهَمِّ خُطْوَةٍ تَسْبِقُ مَنْهَجَ دِرَاسَةِ القُرْءَانِ، وَتُمَهِدُّ لَهُ.

 


1 ـ فَالإِدْرَاكُ المَادِّىُّ، كَوصُولِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ وَإِدْرَاكِهِم.

فَلَمَّا تَرَ‌ٰٓءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿٦١﴾الشُّعَرَآء.

2 ـ أَمَّا إِدْرَاكُ حَالَةٍ لِمَوْجُودٍ؛ فَكَحُدُوثِ المَوْتِ أوْ الغَرَقِ لِصَاحِبِهِ: 

أَيْنَمَا تَكُونُوا۟ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ..” النِّسَآء.

“..فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًۭا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ ..﴿٩٠﴾يُونُس.

3 ـ لِمَا بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ مِنْ تَفَاوُتٍ، وَلِمَا يَلْزَمُهُ الخِطَابَ مِنْ إِحْكَامٍ يَصْبِغُهُ بِالدِّقَّةِ المَطْلُوبَةِ، وَالثَّبَاتِ اللاَّزِمِ، عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، وَاخْتِلاَفِ المَكَانِ، مَا يُوَحِّدُ مِنْ دَلاَلَةِ الَّفْظِ، فَالأَيَةِ، فَالمَوْضُوعِ بالتَّبَعِيَّةِ.